فقه التعرض للنفحات

رمضانيات (3)

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)





إن النفحة الواحدة من نفحات الله لو أجاد الإنسان فقه التعرض لها تكفيه هدر الأيام والأعمار في استجداء عطاء غير مكتوب له  ،أو عمل غير مفروض عليه .ففي طيات تلك النفحات تُطوى الجهود وتفصل مراحل الزمن ، ولا يعود للحساب معنى لأن الأرقام تتلاشى إذ ينتهي كل شيء إلى الأصل الذي خرج منه ، إلى الله .
وهناك يتوقف كل سعي ، وتجمد كل حركة ، ولا يقوم إلا القلب تتجلى عليه الرحمات ، و تشرق فيه الكشوفات ، وتنير في أعطافه الأنوار مشبعة بالسداد على السبيل القويم ، ومكسوة بحديد العزم ، ومزدانة بلذيذ القربة ورحيق النجوى .
فلما وصل الرسول المختار عند سدرة المنتهى ، خمدت كل شارة ، ولم يعد للصعوبة معنى ، ولا للمشقة فسحة ، فقد انتهى رجاء كل ذي رجاء ، وقبض بعين بصرته أمل كل مؤمل .فكيف يتسنى لنا نحن السالكين سبل الكسب ، والواقفين على شفير الهموم ، أن نتعرض لتلك النفحات ، وأن تكون لكل منا سدرة في قلبه تبرد عليه هجير المجاهدة ، وتسقي منه غليل الشوق للقاء .
( إن الرحمات منثورة ولكن الشأن كل الشأن في فقه التعرض ) ..  من دروس النور .
الهداية إلى التعرض للنفحات الربانية المباركة يستلزم استعدادا داخليا في قلب الإنسان وعقله ،ثم همة خارجية في محسّات الجسد واجتراح الجوارح .
أما الاستعداد الداخلي فلازمه دوام استشعار قلبه الفقر لله تعالى، وأن هذا الفقر لا ينفك بحال عن الإنسان ، تماما كما أن النفس إذا انفكّ عن الجسم صار جسدا لا تتردد فيه تباشير الحياة .ويتجلى هذا الفقر في الخروج من الحَول والطَّول البشريين القاصرين ( القوة والإرادة ) ، إلى حول الله وطوله وقوته ، ومن مراد ذاته إلى مراده تعالى ،ومن مشغلته بهواه إلى شغله برضى مولاه ،ومن ضيق عزمه إلى سعد عون الله ولطفه . فإذا علم الرب من العبد بلوغ الغاية في الفقر كان ذلك شفاعة حاضرة لهذا العبد بكمال التوحيد والخلوص من الشرك ، أي من اشتغال القلب بغير الله ، وحينها يكون طرْق الأباب متصلا ، وما يلبث للأمر أن ينفتح على قلب الموحّد بمعان لم يفقهها من قبل ، وأن يُلهم فتوحات تجدد له الأنس في مسيره ،وإن هذا الأنس لهو سلوى ونعيم تقوى القلوب .
أما العقل فاستعداده أن يظل على تعاهد في ترتيب أولويات المسير كلما اشتبكت على الإنسان حاجاته وزادت المضاربة بين ضروراته ومرفّهاته . فيثبت الفكر في بؤرة اهتمام واحدة ،تجعله يجذب حوله من الحيل ما يبلغه غايته . وهذا قانون من قواني العقل قلما يلتفت إليه ،فالعقل جاذب مجذوب معا ،فهو مجذوب من هوى القلب ، مأسور بهمة النفس ومطامعها ،ثم هو جاذب للوسائل وممهد للمسالك التي توصله إلى همّه وتفرج عليه كربته ، فانظر أين تضع عقلك ، حيث تضع همّك !
وأما الاستعداد الخارجي ، فإن في الجسد قوى متعددة ، ليس بالضرورة أنها متصارعة ، ولكنها بالضرورة متطلبة طالبة أبدا ،لأن من طِلابها يتوفر للإنسان معايشه في الدنيا ، وتسدّ عليه فقر وجوده ،فهذا ناموس الجسد ، ومن لم يدرك أن للجسد هيئة خاصة به ، فإنه ينكر كل القوى المركبة فيه ويجعلها جامدة من التفاعل ، والقائل بذلك لا يلبث أن يدخل أتون الجسد متلظيا بناره من حيث ظن كل الظن أنه قد أخمد شهواته .فباللطف يعالج الجسد كما أنه بالرشد يعالج العقل ، وبالحب يعالج القلب .
وجماع استعداد الجسد والجوارج في ثلاثة أمور :
الأول :شغل الجسد بالطاعات لا ستفراغ طاقته الأرضية الشهوانية المتثاقلة ، فالعقل والقلب يزدادان بالشغل ، وأما الجسد فيضعف به .
الثاني :الكف عن المعاصي والذنوب ، وكبح جماح الاستشرار فيهما . فالمعاصي تزيد بهيمية الجسد وتنقص نورانيته .
الثالث :المحافظة على النظافة والطهارة ، ولا ينكرنّ  أحد من أن تعهد الرعاية والحفاظ على الجسد نظيفا ذا أثر في همته ، فالجسد متنفس العقل والروح وبه قيامهما بواجباتهما ، فإذا طَهُر هذا المتنفس ؛ كانت الروح أجمع حالا، والعقل أشد استحضارا .
وعدة كل هذا الأمور مجتمعة في " الصبر واليقين "، إذ لابد كل مسير من عدة ، ولكل رحلة من زاد . وعدة الحال دوام المجاهدة فإن الفتوحات تقع بقدَر الله لايضطرها ذي جهد إلى الخروج ، ولا يمنعها ذي حرص من المثول ،وإنما تأتي حين تستوي الإرادة الإلهية على سوق العطية الربانية .
وإذا استقرأنا القرآن فإننا سنجد الإشارات إلى هذه الاستعدادات منثورة حاضرة في طرق الرشد والارتقاء ، مصطبغة بطابع العبادات ، وما من سبيل لنيل النفحات الربانية والمدد الإلهي إلا من قبل العبادة ،العبادة بكل مافي الإنسان من قدرة :جسدية، عقلية ،روحية قلبية .وفي المجاهدة بتهيئة هذه الاستعدادات يتفاوت الخلق في منازلهم ، وتختلف مراتبهم في عبادتهم ، وتتمايز قدرتهم على التقرب إلى الله .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )