صفات المصطفين الأخيار

 رمضانيات (1)

إن الله يصنع رسله المختارين على عينه، كما قال تعالى لموسى عليه السلام ( ولتصنع على عيني ) ، وقال ليوسف عليه السلام ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) ،وقال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه " أدبني ربي فأحسن تأديبي " ... فماهي أبجديات هذه التربية الربانية ، وماهي صفات عباد الله المصطفين الذي اختار الله لهم هذه الصفات وصنعهم بمحبته ورضاه على خير ما تكون الصنعة التي تعقبها القدوة للعالمين .نستشف ذلك مما قاله تعالى عن تربية يحيى عليه السلام في سورة مريم .
(يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأتيناه الحكم صبيا ، وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ، وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ) 
  1. ( خذ الكتاب بقوة ) العزيمة التي لا تلين ،والقدرة على حمل العبء والنهوض بالأمانة ، فلا يضعف ولا يتعاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة النبوية 
  2. (واتيناه الحكم صبيا ) والحكم هو الحكمة وهي وضع الشيء في مكانه السليم ،وإنزال الأحكام على مواقعها الجديرة بها وهذا يتطلب وضوح في الرؤية ونور في البصيرة ،ومن طبيعة هذه الحكمة عند البشر الآخرين أن تأتي متأخرة لأنها خلاصة عصارة التجارب ودقة الملاحظة لتقلبات الدنيا بأهلها ، وهي وإن كانت قد أعطيت ليحيى عليه السلام وهو صبي إلا أنها عطاء دائم يؤتيها الله من يشاء من عباده ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) 
  3. ( وحنانا من لدنا ) : والحنان هو العاطفة النفسية التي تنبع من قلب شفيق رحيم ولا يمكن لأي قائد أن يفتقد هذه الصفة وإلا أبغضته رعيته ، وهي من باب أولى أن تكون حلية المتصلين بالله والداعين إليه ، وهذا الحنان هبة لدنية ليحيى لا يتكلفه ولا يتعلمه ، إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به ، والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس ،وتالفها واجتذابها إلى الخير في رفق ، لذلك لم يخبرنا تعالى عن صفة فردية من صفات محمد صلى الله وسلم إلا صفة الرحمة وقرنها بنجاحه في الدعوة ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) وبقدر ما تعظم مسؤولية الإنسان في الحياة بقدر ما يتوجب عليه أن يتحلى بالرحمة والحنان .
  4. ( وزكاة ) وأتاه الطهارة والعفة ونظاقة القلب والطبع ، يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس ، فيطهرها ويزكيها . والناس الآخرين من غير المرسلين تنفتح أمامهم سبل الزكاة كلما جددوا التوبة من ذنب أو فقهوا علما جديدا في معرفة الله ، ولا يقنط الإنسان من بعض المعاصي الذي تلوث سعيه ،فهي كالشوك الذي يحيط بالوردة الجميلة ، فلا يكترث لها ولكن أيضا ليحذر من الاقتراب منها ، وليكن عرضه طاهرا فعليه مدار السعي كله .
  5. (وكان تقيا ): أي موصولا بالله ، متحرجا معه ، مراقبا له ،يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه .
  6. ( وبرا بوالديه ) فالإنسان لا يخلو من حياة اجتماعية وأولى درجات هذه الاجتماعية الصادقة أن يكون ذا بر ورحمة بوالديه لأنهم صاحبا الفضل عليه بعد الله ، فانظر كيف أن الله تعالى بعد أن ذكر تقواه وهي واجب العبد تجاه ربه ، ذكر بر الوالدين وهو واجب العبد تجاه أول صاحبي فضل عليه في هذه الحياة بعد خالقه ،وفي الوالدين إشارة إلى اتساع الدائرة الاجتماعية حول الإنسان بالإخوة والأخوات والأرحام ، فإذا ما ألف الإنسان صلة الرحم القريب كان سهلا عليه التعايش مع المجتمع كله .
  7. ( ولم يكن جبارا عصيا ) إن الجبروت والطغيان مما تفر منه النفس طبيعة وفطرة ، لذلك يعتبر وجوده في أرض ما أو تخلّق إنسان به ، أشبه الشذوذ عن القاعدة الكونية المطردة ،لذلك فالجبروت مكروه حتى عند غير أصحاب الشرائع ،ويبتعد الإنسان عن الطغيان بقدر ما يقترب من التواضع والتآلف مع الخلق . وأما العصيان فليس هو تلك المعاصي التي تعرقل السعي إلى الكمال عن غير طواعية وقصد من فاعلها ، ولكن الخوف الحقيقي أن تصبح هي السمة الغالبة على سلوك الإنسان حتى أنه لينادى بها ويعرف بها على الأشهاد ، فيقال فلان صاحب حانة ، أو فلان من أهل الفجور .
هذه هي صفات المصطفين الأخيار ،وهي كلها ميسورة لنا نحن السائرين على دربهم للتحلي بها تزكية وتحلية ،فإذا منحها الله وهبة لدنية للرسل إلا أنه جعلها كذلك عطاء مبذولا لمن يجاهد من خلقه ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) 
--------------------
تم الاستضاءة ببعض المعاني التي وردت في تفسير سورة مريم من كتاب ( تفسير ظلال القرآن ) لسيد قطب  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )