المعذبون في الأرض




ورد هذا المصطلح عند عند فرانز فانون مؤرخ حركات التحرير المناهضة للاستعمار ،ثم استخدمه طه حسين في عنوان كتابه الذي يتحدث فيه عن الطبقات الفقيرة والمسحوقة في مصر القرن الماضي . وبما أن موضوعنا على تماس مع تطلعات فرانز فانون من جهة وقصص طه حسين من وجهة أخرى ، فإننا سنُبقي على العبارة  كما هي ،خاصة وأن فرانز فانون  هو نموذج السطور اليوم ،وكل يوم سيجدد فيه البطش والجبروت ملامحه في عالمنا المعاش . كان فرانز فانون والذي أصبح فيما بعد إبراهيم فانون فرنسيا من أصول أفريقية سوداء ،استقر والده في فرنسا بطريقة ما .اشترك فرانز في بواكير حياته في الجيش الديغولي الفرنسي ،الذي ابتدأ فيه إحساسه بمرارة التمييز العنصري بين طبقات المجتمع الفرنسي المنحدر من أصول متعددة ،ثم زاد شعوره بالرفض لكل ادعاءات الديموقراطية  وحقوق الإنسان التي يروّجها ساسة الاستعمار عندما صار مديرا لمستشفى في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي للجزائر ،فكان شاهدا على أنواع الظلم والاضطهاد التي يتعرض لها سكان الأرض الأصليين ،وفي سابقة فريدة قدم  استقالته إلى البعثة الفرنسية وكأنه يقدمها إلى كل مبادئ فرنسا الاستعمار وليس فرنسا المدنية ، ثم انضم إلى صفوف ثورة التحرير الجزائرية على مدى سنوات في الداخل والخارج ، وكتب خلال هذه الفترة عن الاستعمار والاضطهاد وأنه ما من مجال لبقاء الإنسانية ما دامت نظرية الاستعمار تسيطر على عقلية الفئات الأكثر قوة في العالم ،وقد توفي إبراهيم فانون كما قرر أن يكون اسمه في نهاية حياته؛ قبل تحقيق الثورة الجزائرية نصرها بأيام قلائل .أما المسحوقون عند طه حسين فهم في الحقيقة شريان الحياة الضامن لها جريانها ولا يوجد مجتمع يخلو من الطبقة العاملة بكل ما يحمله هذا الاسم من خواطر التعب والعرق وهموم الحياة الصغيرة ،ولكن في وجهها الآخر هناك  البراءة والطهارة والصراحة التي تتحلى ببصيرة خاصة تجعل  للصدق عندها مذاقا مختلفا عن ادعاءات الساسة ،ومصالح الأقوياء المتصارعين ،وخربشات المثقلين بالثقافة .
في الثورات العربية كان الصوت الحاد والوجه الحاضر في التضحيات والرفض هم أولئك المنسيون في الأرياف والقرى والبلدات القديمة ،أولئك الذين لم تتخمهم أحاديث المثقفين ،ولم تفتل بالهم كتابات الاتجاهات الفكرية المتضاربة ، ولعلهم لم يسمعوا يوما عن السيسيولوجيا والأيدولوجيا ونظريات التشيّء والحداثة وما بعد الحداثة !! تلك المقولات التي استهلكنا ردحا طويلا من الزمن  و نحن نقيس حجم الأفواه التي تهرف بها رجاء أن تتبدد يوما عن صرخة النجاة لمجتمعاتنا الرازحة تحت كل ما يخل بالإنسانية السامية من ظلم وحيرة وجبر يتوارثه قهر .لقد خرجت من البياض تلك العقول التي ظنناها صغيرة لا تدرك غير سعر الفاكهة ،ولا تفقه من اللغات غير تكسرات لهجاتها العامية المتفاوتة بين الريف والجبل ،و ولدت النبوءة من حطام الطغيان فاستهلت صرختها في مهد الإيمان بأنه ما من ياس يعلو الأمل في رحمة الله .
لقد وجدت – من لازمها - لفظ " العامة " عبارتها المفقودة في روايات الحداثيين ، وأنشدوا لحنهم الصامت في أناشيد العسكرية الهمجية   ، ولامسوا بإخلاصهم ما بات عزيزا في حناجر المتكسبين بالدين، ولعلهم أكملوا سمفونية أينشتاين الناقصة ، ونظموا البيت الأخير في شعر المتنبي ! ولا عجب فالقانون الإلهي أن (الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ولا أعز خليفة من الإنسان كي يبقى أولو العزم ويذهب أولو النجوى!
        إن التاريخ سيكتب ولابد عن هذه الثورات وسيكفينا الآن مؤونة التسرع في إبرام الأحكام فما زالت الدماء حارة والوعي مكبلا إلى الغيظ المكتنز في القلوب ، ولكن ما يهمنا الآن هو أن نتخذ من هذه الإشارة الكونية المتمثلة في الثورات التي تحدث دوما كنوع من رد الفعل تجاه قانون التدافع بين الخير والشر ،ما  يجعلنا ندرك نوعية الفكر الذي يعتنقه كل منا ، وجدوى الثقافة التي نربي بها عقولنا عبر الأطروحات الثقافية والكتب الأكثر مبيعا ! إن الثورة الحقيقية هي تلك النابعة من رفض الغث في الأفكار ، وتكبيل التفيهق  في الأقلام ،وإبطال سحر الكفر عن القلوب المؤمنة ،إذ مالم تكن الثقافة رافدا لجعل الرؤية أكثر وضوحا ، ومالم يكن السهر على القراءة في الكتب تصفية للبصيرة وتحلية بالعزيمة وخلوصا من التعقيد والتفنيد فإنه ولاشك أن كلا منا ( ممن علموا وظنوا أنفسهم  قد ثقفوا ) في مأزق مع ذاته وهو إلى ذلك مبددا حصيلة قوته الفكرية وذخيرة عمره الذي انبرى بين الكتب الصفراء والأقلام المتكسرة .فهل نستطيع أن نوجد معيارا جديدا يرشدنا عند  انتقاء ما نقرأ حين نقف على رفوف العرض في المكتبات ودور الكتب ؛هل يمكن أن يكون هذا المعيار :ما الكتاب الذي يجعلني  أكثر شجاعة ؟!.

( والآن هل بإمكانك أن تقترح علينا أسماء كتب تزيد الشجاعة وتجلي البصيرة مما قد قرأت في سالف أيامك أو تقرأه في  حاضرها ؟ننتظرك في التعليقات  ... شكرا مقدما )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )