الفطرة والصداقة مع النفس

رمضانيات ( 6 )

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 


لا تعاند فطرتك ! هذه خلاصة الوجود البشري كله ،وتذكّر أن فطرة التوحيد في داخلك هي الإطار الذي يحفظ الرغائب والشهوات والغرائز الدنيا ،والغايات والهموم والقدرات الفكرية العليا ،والحقيقة أنه في عالم الفطرة ليس هناك من دنيا ولا عليا لأن النفس الإنسانية واحدة وهي بكليتها تحتضنها الفطرة الواحدة الأصلية .
إن التضارب المتوارث ثقافيا ؛بين عقل الإنسان وروحه وجسده ، إنما هو موهوم بكل أبجدياته ،قد وضعته الأيدلوجيات التي تصور الصراع هو الأصل في الكون كله خلقا وإيجادا ، وتسييرا ومآلا .فهناك الصراع بين الخالق والمخلوق (أن الإله بعد أن خلق آدم على أحسن ما يكون وبدأ يظهر جمال آدم وذكائه ، حسده الإله الخالق وجعل من آدم بؤرة صراع يتمحور حوله تدبيره لهذا الكون !) ،وتبع هذا الصراع صراع دائم بين كلية الإنسان الداخلية من جهة ، وقوى الغيب من جهة أخرى ،وباقي أفراد الخلق في الكون ،حتى وصل إلى معاداة الإنسان للإنسان المنحدر من ذات النوع والجنس والأصل ! بل إن قصة الحياة كلها تم تلخيصها على أنها قصة الصراع للبقاء بصرف النظر عن جدارة هذا البقاء تكريما أم تجريما ، فالمهم هو البقاء .
وعودة إلى داخلنا ،فإن القصة أبسط من ذلك ،لا تخلق صراعا بينك وبين نفسك ، ولا بين نفسك وتطلعاتها الروحية ، ولا بين عقلك وجسدك ,ولا بين جسدك وروحك .. أي اطرد فكرة الصراع من كل داخلك وتمتع بالسلام الذاتي مع نفسك كلها بكل ألوانها وأحوالها حتى وإن كانت قاصرة أو خاطئة أو مترددة ، لأن وجود الفطرة السليمة داخلك سيردك ويردها دوما إلى حيز التوازن حيث تتعايش مع كلّك بسكينة أرادها لك خالقك .
إن الثبات على اعتناق الفكرة القائلة بأن الأصل في النفس الإنسانية هو الخطأ والمعصية، مبدأ لا دليل عليه في القرآن والسنة و لاحتى من فعل الراشدين الذي فهموا الإسلام من فم النبوة وفهمها الأول الأنقى ،وإنما هي فكرة تسللت إلى معترك الجماعات التي أخذت عن فارس والروم الفلسفة التي تعرضت لتفسيرات النفس الإنسانية وموقف الإنسان من الإرادة والجبر والخطيئة .ونحن اليوم في غنى عن إعادة هذا الجدال العقيم بكل ألوانه ، وإن كنا نعيب على من أخذ هذه الأراء ولم يعرضها أولا على الكتاب والسنة واستغل بعض التشابه الموهوم في ذمّ النفس أو الحضّ على جهادها في الميراث الإسلامي الأصيل ليعبر عنه بتلك الأفكار الوافدة ، وهنا حصل الغلط الذي سيظل خطأ فكريا ثقافيا متكررا ، حين نتوهم أن اجتماع الحالات المتشابهة ،ينشأ عنها استخدام نفس اللغة والمصطلحات دون الالتفات إلى المجتمع والمحيط الذي نشأت فيه الفكرة أول مرة ، لأن هذا المحيط هو المحكّم لهذه الأفكار .نعم لقد وردت الآيات في القرآن في تسمية نوع من النفوس ، بالنفس اللوامة ، كما تحدث عن النفس الخاطئة التي اجترحت المعاصي ، ولكن لم يرد تقرير بأن الأصل في النفس هو الخطيئة بحال من الأحوال ،لأن ترسيخ هذه الفكرة يجعل الإنسان في حلّ من سيطرته على ذاته وقدرته على الفعل وانتساب هذا الفعل إليه ، ثم محاسبته عليه ،وهذا مما يتناقض مع عدل الله سبحانه وتعالى .إن النفس هي الكينونة الحرة الهابطة من سماء العقل ،والصاعدة من فوران الجسد ،والساكنة في نشاط الروح ،هذا المجموع الذي لا يتجزأ للنفس يجعلنا على بينة من نسبة الخير والشر إليها ،بل ويجعلنا على نهاية حقيقية في فهم الاضطراب والخلل الذي قد يعرض إليها ويشوش على الإنسان استقراره النفسي وأمنه الاجتماعي .فقد يكون تدهور النفس نتيجة فكرة خاطئة يعتنقها الإنسان لم يستطع الجسد تحملها ولا الروح التعايش معها ،!وقد يرد خطأ النفس وخطيئتها إلى منح الجسد حيزا أكبر من النشاط على حساب خمول الروح وجمود العقل ،فلا يجد هذان متسعا لهما للتنفس فيحاولان إيجاد مساحة لهما ، فيظهر الأمر وكأنه صراع أزلي مع الجسد الضعيف القوي في الوقت ذاته ! وقد يكون يأس النفس وسأمها من الخير مرده إلى تطرف في فهم معادلة الخوف والرجاء ،أو ملالة من جفاف الروح وانعكاس ضلال المحيط حولها عليها ،فيظهر أثر ذلك في اعتلال الرؤيا العقلية ،واندفاع الجسد مشتتا حول مالا يعرف ولما ا يريد !.
لا تعاند فطرتك ،أعط كل ذي حق حقه ،واعلم أن السمو بالنفس هو السمو بكلّك ،ولن تخذلك هذه النفس لو استطعت أن تفُهمها سر وجودها وتجعل لها عدسة مكبرة ترى بها الخير في الكون ، والخير في الوحي ، والخير فيك ،لأن النفس بطبيعتها ميالة إلى تحقيق الأفضل وهي تتشوق إلى الشعور بالإنجاز والنجاح .




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )