أحاديث السّمار

رمضانيات ( 8 )

في ليالي رمضان تدركنا الحيلة للمسامرة ورواية القصص ، ولكنه وإن لم يكن أحسن القصص ؛ إلا أن له نصيبا من العبرة والنور ،تماما كما ينال الصغير الحكمة مبكرا فلا يضره قلة أيامه ما دام قد رجح به عقله وضبط له فؤاده .

الحديث الأول : السامر رقم (111)

طلب مريد من أحد الصالحين أن يعلمه الحكمة ،فأمره المعلم الصالح أن ينطلق في الصحراء ويجوبها ما طاب له المقام ثم يعود . فعاد المريد بعد يوم وليلة هاربا من قيظ الهاجرة وزمهرير الليلة ووحشة الفلاة ،فسأله الرجل الصالح : أين صحفك التي دونت فيها الحكمة عن اللوح العظيم ؟ فتعجب المريد وقال : ما وجدت لوحا ولا دوّنت حكمة !! فأمره الرجل الصالح أن ينطلق مرة أخرى إلى البحر ويبحر فيه ما ارتاحت نفسه ثم يعود .فعاد المريد بعد يومين وقد أعياه هدير البحر وهيجان الموج وركوب المغامرة ،فسأله الشيخ : أين صحفك التي دونت فيها الحكمة عن اللوح العظيم ؟فأجابه المريد :ما وجدت لوحا ولا نقلت حكمة ! فأمره الشيخ أن ينطلق في البرية ويطوف بالجبال ويمكث ما أنست نفسه ثم يعود .فانطلق المريد يضرب الأرض سهلها وجبلها ،يشرب عذبها وملحها ،يعانق شجرها وشوكها ،ثم عاد بعد ثلاثة أيام . فلما رأى الرجل الصالح في هيئة المريد تغيّرا من طول السفر ؛ أشفق عليه وتفاءل أن يكون جوابه مختلفا هذه المرة ،فسأله كعادته : أين صحفك التي دونت فيها الحكمة عن اللوح العظيم ؟فقال المريد وقد انفجر منه التعب والحيرة معا :أيها ما وجدت لوحا ولا دونت حكمة ، فإن لم يكن بك طاقة على تعليمي فلا ترمٍ بي مشاقّ الأرض ، فقد ضاقت نفسي بالكون كله ؛بحره وبرَّه وسمائه وأرضه ..عندئذ قال الرجل الصالح :الآن أقمت على نفسك البينة من نفسك أنك لا تصلح لتلقي الحكمة ! فقال  المريد : ولمَ؟ فرد الحكيم : لأنك مالم تتعلم أن تتفكر في صنع الله فلن تفقه حكمته !.

الحديث الثاني : السامر رقم (222)

بحكى أن ملكا قويا قد غلب على الأرض الوسطى ، وكان جبارا قاهرا ،لايرضى من البشر إلا بالخضوع التام ،ولا يأخذ أمره إلا بالغضب الكامل .فالواقف أمامه مآله إما إلى عبودية مغتصبة ، أو إلى هلاك محقق .
فمرّ يوما في أحد أسفاره التي يطوف بها ممالكه غلبة وزهوا ؛ على شجرة قد التفت أغصانها وتشابكت حتى لكأنها تنسج كوخا قد تفننت يد الطبيعية فلم تخطئ فيه الجمال ولم تحد به عن الدهشة والروعة. وإذا بصوت جميل يتسلل من الكوخ تسمعه البلابل فتغرد به ، وتسكن إليه السباع لاهية عن وحشيتها حينا من الدهر ،وترفرف الأغصان بأوراقها وكأنها تتناول فيما بينها الترانيم لتسمع اقصى الكون ما استطاعت .
فسأل الملك الوزير وقد أخذته رهبة المنظر  ،عن خبر ذلك الكوخ وهوية ذلك الصوت ،فأجابه الوزير أن هذا الكوخ مجهول السّر ولكن مما توارث الناس في أخباره أن صالحا يسكنه ولا يبرحه ،يرتل آيات ربه آناء الليل وأطراف النهار ، وقد اكتفى من الدنيا بالرضى واكتفت منه الدنيا بالسكن والسكينة .فتغيّر وجه الملك غضبا ، وقال : لا أبرح الأرض حتى يأتيني هذا الصالح الذي تزعم ذليلا يعلن ذلته لجبروتي واعتصامه بجنابي !!فقال الوزير وقد علته صفرة الخوف من عزم الملك الجبار : هذا مالا يكون أيه الملك !! قال الملك : ولمَ؟ ،فأجاب الوزير : إن هذا الرجل في شغل بنواياه الصالحة ، يطهر باطنه عن فساد الأفكار ، ويدفع عن ذهنه حيل الأشرار وهذه عدة السماوات على طغيان الأرض فلا يغلبه أحد !
فاستشاط الملك عتوا وأبى إلا أن يقتحم الكوخ ويهجم على الرجل في خلوته .
فلما دفع الباب ألفى الرجل الصالح قائما يصلي ، فنهره بصرخة هاجت منها الطيور ،وفزعت هربا من عنفها الوحوش ، وارتجت الشجرة غضبا ورعبا من كفرها ،ولكن الرجل الصالح ما اهتز منه مفصل ولم يطرف له جفن ،وكأنه في صمّ عن الصوت ،وعمى عن شخص الملك المتصنم أمامه .
فماهي إلا أن خرج الرجل من صلاته ، فأقبل عليه الملك وقد هدّته الحيرة من ثبات الرجل وقوة نفسه ،فسأله مرة أخرى : أيها الرجل أنا الملك قد ملكت الرقاب والبلاد فلا يخرج همس عن أمري ولا تحلّ نسمة إلا بعلمي ،ولي عليك حق الدينونة ،وما أنت في حل من أمرك حتى تشهد لي بالغلبة وإلا فهو الموت لا محالة ..فاختر لنفسك ؟
أطرق الرجل الصالح قليلا ثم رفع بصره ونظر إلى الملك بفراسة المؤمن وقال : ما دمت ملكا تملك البلاد والعباد فما حاجتك لاستجداء الاعتراف بملكك من فقير مثلي  ؟
فبهت الملك وعاد أدراجه خائبا  ،وقام الرجل الصالح يكمل صلاته .
أيها الملك لئن ملكت البلاد والعباد غلبة وقهرا فإنك لن تملك القلوب إلا تالفا وعدلا !

وتتابعت الأخبار حتى لاحت الأقمار مؤذنة انقضاء أحاديث السّمار ،فانبرى الليل يزجي آخر ساعاته ليعقب الحديث ذكرٌ ،ويطوي الفراغ شغلٌ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )