الفارق بين الكون والإسمنت ؟


أشعر بخيبة أمل عظيمة كلما قرأت رواية تفنن كاتبها في وصف الطبيعة التي يعيش بين أحضانها ويستقي جزءا كبيرا من أفكاره وتصاويره منها، فأنا ساكنة بلاد النفط لا أعرف شيئا عن الجبال المنسابة بين البياض والخضرة كالحسناء ترفل في حلل الدمقس والسندس ، ولا أسمع خرير المياه في جداول يفجرها ذوبان الثلج من الققم والأشجار فتغدو أول انشودة الربيع القادم ،كما أني لا أشعر بنسمات الهواء تداعي وجهي المشحون بالأسئلة ، فكل الهواء عندي عمره شهر ونصف من العام أسعد به حين يشقى آخرون في بلدان الشمال بزمهرير البرد وارتفاع أسعار النفط ونقص وقود التدفئة ! حاولت حقا أن أجرب سماع أصوات تأتي من الكون البكر عوضا عن هدير المكيفات واهتزازات غسالات الملابس وأنين الهواتف النقالة ، اشتريت تحفة تخرج الماء من أكمامها فيوقظ  انهماره صباحاتي ومساءاتي المتعبة ، ولكنه في النهاية ذات النغمة وعلى ذات الوتيرة ، تماما كالوتيرة التي نحياها في الاسمنت الباهت ! إني على يقين أن الإسمنت هو اسوأ اختراع إنساني ،إنه يجفف الروح قبل أن يسحب كل موارد الأرض الطبيعية من الماء ،وما زيادة التصحر في بلداننا العربية إلا نتيجة هذا الافراط في استخدام الاسمنت على أراض تنتظر حولا إثر حول رحمة السماء فما تلبث أن تهضمها شراهة الحرارة في مبان الاسمنت . اشتريت ببغاءات  من نوعين مختلفين عليّ أسمع شيئا من أصوات الطيور وهي تؤذن بفجر أو ترتل بليل ،ولكنها سرعان ما صمتت وكأنها أيقنت أن إنسان الاسمنت لن يستطيع بحال أن يكون لها عروش  الأشجار في محضنها الكوني .فعن ماذا أكتب إذن ؟ وماذا أصف لو اردت أن أصف ،  مادام الوصف جزء رئيس في كتابة الرواية أو أي عمل أدبي ،و كل ماحولي جدران رتيبة من اسمنت تمر عليه السنين فيزداد وحشة وكآبة لا كالشجر الذي يعمر  خضرة ونضرة مع تعاقب الدهور .
حسنا ، فكرت أن أكتب عن البشر ، عن العالم الداخلي لإنسان الاسمنت وكاهن النفط ،ولجت إلى ألأفكار ، وخامرت الأرواح ،و استبطنت النوايا ،فإذا بها كلها تدور في دافور واحد يعجنه الاسمنت ،فالأحلام نسخ متطابقة ، والأفكار الحبيسة داخل هموم الغلاء وتأمين العيش تتردد كنغمة أثيرة لا يختلط بها غيرها ، والاستكانة على رجاء أن يظل كل شيء كما هو ( فلا يغير الله علينا شيئا ) ؛تميمة تقلدتها الطموحات عاليها وسافلها ،ففي بلاد النفط ورغم تلون الجلود واستعجام الألسنة ، تظل الحكايات نفسها ،ولولا أن الله استأثر لنفسه بسنة الخلق فخالف بين بشراتهم وألوانهم وضارب ألسنتهم على كل وتر مختلف ؛لاستحالوا  جميعا بوجه واحد كذلك الوجه الذي يسكّ على العملات المختلفة الأحجام والألوان ولكنه في النهاية ذات الوجه ،وجه من الماضي !  وكأن الأغاني تبهت إذا وصلت على مشارف حدود الإسمنت الأغبر ! يخيل إلي أننا في  أبعد نقاط الكون عن نفسه ،بؤرة لفظ الكون فيها كل ما فيه  ثم اغترب بعيدا ، بعيدا جدا عن ذاته ،حمل ألوانه وأصواته وخضرته وبحاره حمل كل شيء استطاع أن يدل عليه ورحل خلف جبال الاسمنت !
لابد من وجود فجوة ما في الطبيعة نستطيع أن نتسلل إليها نحن سكان الأرض الوسطى  لنطل منها على عالم تنسل منه إلينا روح  ما من الكون كي نستطيع أن نكتب ، كي تستعيد أزاهير الحياة عنفوانها فينا ،ولتداعب آمال الغد ولادة ساعاتنا ، وحتى تنشد على محاضن عقولنا ربّات الأفكار الحسان ،ولكن كيف ! ومن أين ؟ لقد اشتبك العالم كله ،عرفنا شرقه وغربه، شماله وجنوبه ، بل تأتينا الصور حتى من الفضاء عن  هذه الكرة المنبعجة عند القطبين ،أتأمل هذا الاتساع فتروح مخيلتي تصور كل انعطافة منه  على أنها سرداب يفضي في آخره إلى  بوابة خروج وولوج معا: خروج من العماء  ودخول إلى الوجود ،ولكن أتوقف  بعد كل ترحال في ذات المكان وعلى ذات المقعد وخلف ذات الجدران ، جدران الاسمنت !
لا عجب أن استخدام الانترنت في بلاد النفظ الصحراوية يزداد ، ليس رغبة في التعلم أو ممارسة أنشطة العمل بقدر ماهو بحث عن أشكال  جديدة من تلك التي تسميها معاجم اللغات ( الحياة ) ،نرى صورا معلقة في شبكات التقطتها عدسات تعيش في ذلك العالم الآخر ، عالم الطبيعة الملونة ،نتابعها بانبهار  ونتعشقها بحيرة وقلق ، تماما كالمشاعر التي انتابتنا أول مرة حين دخل التلفاز الملون بيوتنا وعقولنا ،فلم تعد هناك حاجة لأن نلعب لعبة التخيل لنخمن ألوان ملابس الممثلين ، ولا كي نعرف هل ما خلف المذيع منظر شجر أخضر تم تصويره من بعيد ،أم جبال ووهاد تحمل تضاريس العرفج والسدر وحسب !
ومع ذلك هل جعلنا الانترنت أكثر خصوبة في الأخيلة ، وأوقر حملا في الأفكار ، وأعلى مقالا في التصورات ! هل استطاعت ألوان الانترنت أن تتغلب على الاسمنت الرمادي  والغبار الأصفر ؟! سؤال يستحق أن يشغل قسطا وافرا من التفكير النفطي .
ولكن على الجانب الأخر من براهين الحقيقة القائمة أبد هذه الأرض ، ألم تكن هذه الصحارى الممتدة زاد خيال العربي الذي لم يشهد العالم وفرة في التصاوير ولا كثرة في التراكيب اللفظية ، ولا نشاطا في استحداث الشوارد والوارد منه هو ساكن هذه الرتابة و ناسك هذه الصفراء ! فليست المشكلة إذن في حرارة الهواء ولا قيظ الهواجر ولا زمهرير الشتاء ، المشكلة في القلب الذي توقف عن النبض ومن بعده جف العقل عن حفظ الرطوبة .من القلب يتسع الكون ، فنحن لا نرى بأبصارنا البيضاء بل نرى ببصائرنا الملونة بأحلامنا وطموحاتنا وعزائمنا، وكل هذه وتلك مردها إلى القلب ،منه تستمد اشتعالها ،وبه تستبقي قداستها  ،فالطير في السماء يراه العاشق بشير المعشوقة ، ويراه الحادي نذير جثة متعفنة في فهوة ما ، ويراه الكئيب بريد  سلام من حرب تضرم نارها  ، أو أخرى طوت حزنها ،كل بحسب ما ينبض به قلبه !
صحيح أن  العربي لم يعش سجون الاسمنت وهذه وحدها نقلة لا ينبغي إغفالها ،ولكن العربي لم يوقف قلبه عن الحركة ،واستبدل بجفاف الأرض قطر العاطفة ، وبخواء المكان شجون الأفكار ، وبصهيل التوحش أنس الحداء !
 ونحن اليوم مالم نستولد الحيلة لنجعل قلوبنا تنبض .. تتسع .. تصرخ .. تمارس وجودها ...  فلن نستطيع أن نكتب سطرا من أدب  ،ولا أن نشتق حرفا من فكرة .القلب هو سر أسرار الكتابة ، وهو ذاته ختمها الذي يوضع على قبرها .

( هل تتصور أن السؤال في هذه المداخلة هو أبسط الأسئلة وأكثرها تعقيدا معا : إنه ببساطة : كيف تجعل قلبك ينبض ؟ وهو ذاته بصعوبة : كيف تجعل قلبك يشعر بالحياة ؟ ننتظر إجابتك في التعليقات على المداخلة ... شكرا مقدما )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )