قصير المدى بعيد المدى

رمضانيات (4 )



يعيش الإنسان في حياته تنازعا بين هدفين كلاهما من مقدرات عيشه وأولويات وجوده ، ولكن المشكلة تنشأ حين لا يستطيع الإنسان أن يدرك أيهما صاحب الحاجة الملحة ،وماهو ذاك الشيء الذي الذي يظل حلما سيتحقق يوما ما ولكن الله وحده يعلم تقدير حدوثه وتحققه .ليس الحديث هنا عن فقه الأولويات على رغم أهميته ،ولكننا نغور عميقا في الفكر الذي يسبب هذه الفوضى بين العاجل والآجل ، ولماذا يكون علينا أن نتخذ قرارا غالبا ما يكون خاطئا بين الحاضر والمستقبل ،أو بين الحلم والحقيقة ؟!
بداية لابد أن ندرك أن هناك نوعين من البشر : النوع الأول : ذاك الذي يعيش في لحظته الآنية ويرى أن مشاريع الحال أولى من توقعات المآل ،وهذا بالضبط يحاكي السياسي ، فالسياسي في تعريفه هو ذلك الشخص الذي يعمل وفق الممكن والراهن ،فتجده يبحث عن متطلبات الحياة اليومية ، وأسعار السلع ، وتوقعات أسواق المال ، على حساب الأهداف العالية التي غالبا ما تصبح مبادئ سامية ولكنها غير قابلة للتحقيق بالنسبة إليه ، لأن عذره القائم دوما : أنه يعمل في حدود الممكن .
أما النوع الثاني فهم أولئك الأشخاص الذين يعيشون بالغايات العالية والأهداف بعيدة المدى التي تتوارثها الأجيال ثم ما تلبث أن تصبح درسا من دروس التاريخ ،فهم يضعون النظريات ويقدحون الأفكار بشكل ممتاز بل مذهل ،ولكن لا تسألهم عن خططهم للحظة الحاضرة ، ولا تطلب منهم أن يضعوا لك حلا سريعا للأزمة المالية العالمية القائمة ،نعم قد يضعون خططا ولكن يتم تنفيذها عبر خطط زمنية طويلة يستفيد منها أناس قادمون ، أما أناس الآن فليس لهم نصيبا سوى من تقشفها وتضخم معاناتهم معها .وهؤلاء هم أصحاب النظريات الفلسفية والاتجاهات الفكرية ، ورغم أهمية عملهم في التاريخ البشري ؛ذلك أن نظرياتهم ما تلبث أن تفرض نفسها على مسيرة التاريخ ، إلا أنهم يعيشون منغصين من تجاهل الناس لهم وعدم اعتناق  أفكارهم بين معاصريهم ، وكم يطلعنا التاريخ على شخصيات راجت أفكارهم وتم الاعتراف بمجهوداتهم بعد رحيلهم عن الحياة ، هذه الحياة التي لم يعرفوا من سماتها سوى الألم والتجاهل والفقر المادي والأدبي !
وهذا التصارع بين قرار الوقت ، وتوقع المستقبل لا يشكل معضلة فقط في حياة الفرد ،بل إنه كذلك أحد مصادر القلق عند صناع القرار في كل المستويات ،حتى في الحروب الطاحنة ، فتجد من القادة من يبحث عن نصر سريع يخرج منه بأقل الخسائر ،وقائد آخر نظرته توصله إلى النصر الشامل الذي يمتد أثره عهودا قادمة دون أن يكترث أن التضحيات في الوصول إلى هذا الهدف البعيد والسامي قد تكون غالية جدا حتى لتصل إلى مرحلة الشك في مشروعية التضحية ذاتها حينئذ!
ولو قرأنا القرآن الكريم بتدبر كما يريد منا أن نقرأه ، لوجدنا أن كلا الاتجاهين حاضرين كذلك من ضمن الاتجاهات العديدة التي تتناول توجيه القرآن لحياة الناس ،ولعلنا لو درسنا كيف تعامل القرآن مع التقابل الأزلي بين العاجل والآجل ؛لأمكننا أن نستفيد منه في إحياء سنة التعايش بينهما في حياتنا الفردية، ثم الاستفادة منه في قراراتنا المصيرية .
تناول القرآن قضايا تنظيم الحياة المدنية واضعا لها شرائع محددة مقننة لا مجال لإغفالها أو ربطها بأهداف بعيدة ،فمثلا : شرح مفصلا مصطلح الربا وعاقبة المرابين ،كما تحدث عن أحوال الطلاق في الحياة الزوجية واضعا كل الاحتمالات حتى في حال الرضاع والفطام والعدة والنفقة وما إلى ذلك ،كما تحدث عن الدَّين وفصله بكل احتمالاته في أطول آية في القرآن في الآيات الأخيرة من سورة البقرة .. إلخ ، أي أنه لم يترك تيسير الحياة المدنية لخطط بعيدة التطبيق أو ضبابية ،بل كان حازما ؛ سمّى الأمور بمسمياتها ( وليس البيع كالربا ) ،ووضع الحدود وحرّم تعديها ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ) ،ورسم الكيفية التي يتم تطبيق هذه الشرائع العاجلة فيها (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة )وقد أتت هذه الآية بين آية سابقة في تدرج تحريم الخمر ،وآية لاحقة في اليتامى والزواج .
وفي معارض متعددة أخرى يعرض القرآن القضايا ذات الأجل البعيد ،فالقيامة ومشاهدها ،والجنة والنار وأهليهما ،وعواقب الأمور وقوانين الكون ،قضايا تحتاج لنفس طويل من الإيمان لأن نتيجتها ستكون يوما ما ،وهو يوم مبهم لا يعلمه إلا الله ، ولا يستطيع أن يتصرف الإنسان فيها أو تكون له إرادة في تأخيرها أو تغيير وجهتها ، أو إعادة إخراجها ،وكل ما عليه أن يستعد لها استعداد الموقن بها ،المتربص لها مآلا قادما .(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ( إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) ( ويرونه بعيدا ونراه قريبا ،يوم تكون السماء كالمهل ).
إن هذا يعني أن الإنسان بمقدوره أن يجمع في زاوية بصيرته بين القريب والبعيد ،والمعجل والمؤجل ،شريطة أن يتقن وضع الأمور في نصابها وفق هدفه الأول في حياته وغايته من سعيه على هذه الأرض .فالشؤون الدنيوية لابد من البت فيها بأساليب سهلة ومن أقصر طرقها ،لأن تأجيلها يكسبها تعقيدا ليس لها ،ويجعل منها هاجسا مؤرقا للإنسان ،وهو في حقيقته وسواس فارغ يستدرجه به الشيطان والنفس الغرور على حساب تصفية قلبه وخاطره لماهو أعلى وأهم من سعي الآخرة .وغالبا ما يؤول عدم الحسم والجزم في قرارات الأمور اليومية العاجلة أو الأحلام المادية التي هي من ضرورات العيش أو مما يجعل العيش أفضل ؛غالبا ما تصبح أماني مؤجلة ،وفرح مكتوم ،وتربص بالهمّ ، وتعسير لليسر ،فيمسي الإنسان في ضيق من الأمل ،وكرب من اليأس ،حتى ليشيب صبرا  !
إن الأمور العاجلة غالبا ما نتعرف عليها بارتباطها بتيسير العيش في الدنيا من جهة ، وبالفطرة الإنسانية الضرورية من جهة أخرى .فمن مثال الأولى ؛ امتلاك البيت للسكن ،وترتيب وضع العمل في التجارة أو الوظيفة أو أي تصريف آخر ،واكتساب العلم وتحصيل الشهادات والخبرات ونحو ذلك من الأمور التي تثري حياة الإنسان وترتقي به إلى الخطوة التالية في معاشه .ومن مثال الثانية ؛ الزواج ،والإنجاب ،وعقد الصلات الاجتماعية ،والمحافظة على الصحة ونحو ذلك مما تتنغص الفطرة في حال نقصه ،وهو لاشك مختلف بين الناس وفق ما قدره الله لكل منهم .ولكن سد فجوات الزمن في تصريفها أفضل من ترك مصاريعه تصدأ .
وأما الآجل من الأمور وإن كان أكثر أهمية فهو يتحول ليصير دورة حياة يعيشها الإنسان مكتسبا زاده كل يوم حتى يكتمل له ما أراد بعد سنوات من الجهد والتعب .فمثلا ،تأسيس عمل جبار يستمر لعقود يحتاج لبصيرة وصبر طويلين ،وكذلك تأليف الكتب ونشرها يتطلب نوعا من الرهبنة للمعرفة والإخلاص للرسالة قد يستهلك زمنا لا يتسنى تبديده لو تعارض مع ضرورات الحياة القريبة ،ومثله أيضا الرغبة في التخصص في حقل علمي يستهلك الوصول إلى الأستاذية فيه أعواما طويلة ،ويتطلب زادا من الكفاية المادية وراحة القلب وفراغ الخاطر ما يتعسر تحصيله لو أطلّت المتطلبات العاجلة برأسها عليها بين الفينة والفينة ،إذ أن كل هذه الأمور مما تقتلها السرعة ، وتقلبها العجلة حسرة وندامة قد لا يفيق منها المرء إلا بتشتت قوته وانهزام حيلته .
لذلك فإن القاعدة هي :
كن حازما في ما حقّه التعجيل ،وكن متأملا في ما حقه التراخي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )