رجال العهد

رمضانيات (2)


يظل الفكر حائرا  كيف استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصنع من فئة مستضعفة أمة كاملة نفسا وروحا ،ومجتمعا ودولة .وإذا كانت الجماعات ومن ثم الدول لا تقوم إلا على أساس فكرة أو عقيدة تلتف حولها وتدفعها بقوة نحو تحقيق وجودها المتفرد في مواكب الأمم البائدة والقادمة ، إلا أن هذه اللحمة الفكرية العقدية كانت من القوة في الإسلام بحيث استطاعت أن تتجاوز ذاتها الضيقة ( ذات العرب ، وذات أتباع الدين الواحد ، وذات العصبية القبلية ) ،وأن تؤسس لذات جديدة تقوم على المعنى والفكرة لا على روابط الدنيا القريبة .لذلك وحتى اليوم لم يستطع أحد أن يعطي هذا المجتمع المسلم  المتفرد أي صبغة موحدة تجعله قريبا من مفاهيم العصبيات الأرضية، فهو ليس مجتمع العرب وحدهم ، وليس مجموعة ذات الأسلمة لأن شرائع الإسلام تغطي حتى التعامل مع غير المسلمين وهذا ظهر في تاريخ الإسلام بشكل متواز مع التعاملات بين أفراده المنتسبين إليه ، كما أن هذه الرابطة ليست عصبية القبيلة ولا الدم ؛لأنه منذ اللحظة الأولى انضم إلى ركبها بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي .وإذا كان ابن خلدون قد قرر أن أي المبدأ الأساس في قيام الدولة هو العصبية وجعل العصبية للدم من شيم المجتمع العربي ، إلا أن الإسلام بتأسيسه للمجتمع المدني متعدد الأعراق استطاع أن يوجد قاعدة جامعة تعيش فيها الألوان البشرية المختلفة ، كما رسم لها مهمتها وهدفها وغايتها كلها حين جعلها تلتف حول فكرة العقيدة الجامعة فقط. إن قيام الدول على أساس الاقتصاد لا يستطيع أن يوجد ذلك الهاجس الذي يشكل مصدر أرق واستقرار معا لكل إنسان في المجتمع الواحد ،ولعل من أسوأ النظريات التي بنيت عليها الدول المعاصرة ؛إحلال فكرة الاقتصاد وسوق المال والتجارة لتحل محل الروابط الفكرية التي يعيش لها الإنسان ، ولكن الأزمة المالية وعدم استقرار موارد الطاقة وسيطرة راس المال متعدد القارات على الاجتماع الإنسان الاقتصادي أدى إلى النتائج الكارثية التي نشهدها الآن والتناحر الذي يستشري بين طبقات المجتمع الواحد .إن المجتمع الجدير بالإنسانية لا يقوم إلا على العقل والإرادة والتضحية والغايات النبيلة ،هذه وحدها التي ترسخ المسؤولية الفردية تجاه المجموع ،وتجعل هذا المجموع ذاته يرعى مصالح الأفراد فيه .
وقد أبرز القرآن السمة الجامعة التي أنشأت المجتمع الأول ،مجتمع النبوة والفترة الراشدة ،وأسمى هذه العصبية الفكرية العقدية ،باسم ( العهد )فهي تستقي نهجها من السماء ،وهي بذلك تتقدم العصبيات الفكرية التي قد تنشأ في المجتمعات البشرية لاحقا مبتورة الصلة بوحي السماء .هذا العهد المتجدد بين السماء والأرض يجعل معاني الرقابة الإدارية ، والعدل الاجتماعي ،والسياسة الشرعية ،بل وحتى الطمأنينة النفسية ..إلخ من عوامل بناء الجماعة ؛ يجعلها جميعا نامية ومتجددة .
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ،فمنهم من قضى نحبه ،ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )