السوق الفكري


نعم إنه السوق ! ذلك المكان الذي يوصف دوما بالصخب والازدحام ويتحمل من مفرداتنا  كل ما يمت إلى الفوضى من جهة ،وقوة الإبهار من جهة أخرى ،وأحيانا المجون من نواح متعددة ! ترى لماذا ألزمنا  هذا المصطلح بما نعتبره دلالة على أسوأ مافي البشرية من طباع الطمع والاستبداد ، أو الشره والاستهلاكية وهدر الوقت والمال بل والعقل ..أترى المشكلة في المكان أم في المفهوم الذي أضفناه نحن على المكان ؟ خاصة لو أدركنا أننا كبشر أصحاب الشأن في إطلاق المسميات على المعاني لأننا وحدنا فقط المكلفون بالشعور بها .
ولكن من المعجب أن مفهوم السوق عند العرب في الجاهلية كان أعمق من تداول السلع والمشتريات ،لقد كانت الأسواق هي المهد الذي نشأت فيه اللغة ، وهي كذلك محضن الفكر العربي الذي يرنو إلى التوحد وبناء الهوية العربية الجامعة رغم الاختلافات التي تصل إلى حد الحروب الأهلية فيما عرف في أيام العرب ،ومع ذلك فقد كانوا يرون في الأسواق مواطن عصمة المال والدم ، فهي أشبه بالحرم من دخله كان آمنا .إن الفكرة التي تلوح خلف هذا الاستشهاد بالجاهلية هي أن العرب قد استشعروا ومنذ زمن بعيد أن السوق لا تباع فيه السلع وحدها ، بل قد تباع فيه الأفكار ذات القيمة سواء قيمة لغوية أو أدبية أو حتى دينية .وهذا يتوافق مع المفهوم العالمي للسوق اليوم حيث لا ينظر للسوق فقط على أنه مصارف للأموال فقط ،بل إن هناك مجالا لبيع وتداول الأفكار تماما كما يتم تداول البضائع . ولكن يطلق على التعامل بالأفكار "التبادل" exchange ، حيث أن كل فكرة تتحدد قيمتها بحسب قوتها في ذاتها ، وخطورة  المجال الذي تغذيه .لذلك يتكون لدينا ما يعرف برأس المال الفكري ،وهو شيء أعم من رأس المال الاقتصادي المعروف في القطاع المالي ،رأس المال الفكري هذا لا يتوقف فقط على السوق ولكنه يشمل المؤسسات والشركات والمنظمات التي تحرص على صيانة الأفكار التي تتداول بها خلال عملها .هذا النوع من التبادل الفكري وقيمته في السوق الاقتصادي يفتح المجال أمام كل شرائح المجتمع وخاصة أصحاب المشروعات الصغيرة الذي يتطلعون إلى دخول السوق وليس لديهم رأس المال ،ولكن لديهم الكثير من الأفكار ويمتلكون طاقة وجهدا لتسويقها فيما لو أتيح لهم .إن تشجيع هذا النوع من السوق الفكري يشكل رافدا اقتصاديا هاما في حركة التنمية المجتمعية التي تتطرق إلى كل طبقات المجتمع ، بل إنه يمثل نوعا من كسر الاحتكار الذي تفرضه رؤوس الأموال الضخمة فتتحكم وحدها في ذوق السلع أو نوعيتها أو حتى تفرضها على جماهير المستهلكين .أما كيف يمكن إنشاء هذا السوق الفكري وماهي نماذجه وآلياته فإن هذا رهن بنظرة كل مجتمع إلى كيفية التداول الآمن لهذه الأفكار فيه ،وكيف يمكن ضمان تقييمها ووصولها إلى أصحاب القرار في مجالاتها ،وسنّ قوانين الحماية الفكرية التي تضمن خلوها من التزوير أو السرقة .
وفي أمة تتطلع إلى تجنيد كل طاقاتها فإن سوق التبادل الفكري يشكل نوعا من الرافد القومي لإبراز المواهب والقدرات الفردية الكامنة وكسر البيروقراطية والرتابة التي تعوق تطلع العقول الفردية إلى تبوأ مكانتها في مجتمعاتها .
( هل تجد أن فكرة تفعيل اللقاءات الفكرية في الأسواق قد يكون وسيلة لنشر الوعي أكثر في المجتمع ، كيف ترى أن تكون هذه اللقاءات والمنتديات الفكرية والثقافية ؟ أنتظر اقتراحاتك في التعليقات ..شكرا مقدما )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )