معرفة أم تعدين

رمضانيات ( 5 )

  سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 


هل وصلنا إلى شفا الجرف الهاري؟  هل وصلنا عصر معرفة الضرار ؟ هل باءت كل جهودنا المعرفية بالفشل ،وصارت الأمية هي الحل الوحيد لإعادة تدفق الإبداع الإنساني الأصيل وسط ركامات  النسخ واللصق للمعرفة الإلكترونية ؟
هل ما عادت المعرفة شارة التميز للنوع الإنساني ؟ وما عادت نجمة الأفق التي يتطلع إليها الناس و يبيتون ليالهم يحلمون بالوصول إليها والارتشاف من انعكاسة شارتها على قلوبهم ؟مع  كل الزخم المعلوماتي و التجييش المعرفي الذي نعيشه اليوم في عصر التقانة الحديثة وأحدثته ثورة الإنترنت في تشعيث المعرفة الإنسانية وجعلها أشبه بالشعرات الهشة في رأس اشتعل فيه الشيب ؛هل ترانا وصلنا إلى كل معرفة يستحقها الإنسان ،فلم نعد بحاجة للتطلع إلى المزيد ؟هل حققت كل هذه المعرفة كرامة الإنسان واستقراره وأثرت روحه وعقله وجعلته أفضل إنسانيا ؟ كل هذه الأسئلة تتطلب منا أن نعيد سرد قصة المعرفة وفق كل السيناريوهات المحتملة يحدونا همّ وحيد وهو العثور على الإنسان الضبابي والبطل الخفي في أحداثها .ولكن قد يكفينا مؤونة ذلك كله لو سالنا أنفسنا المفعمة بكل هذا الزخم المعرفي والمشبعة بالغرور المعلوماتي : هل المعرفة وسيلة أم غاية ؟ بمعنى آخر هل احتياجنا للمعرفة ناشئ عن حاجة فطرية وضرورة اجتماعية مدنية لا يمكن الاستقامة بدونها ،أم أنها – أي المعرفة – طريقا معبدا يهدينا لغاية أعظم منها وأجل ،وما المعرفة مهما اتسعت  إلا الدرجة التي تفضي إلى ما بعدها ، وما بعدها ، ثم ما بعدها ،حتى نطلع على السرّ الأكبر لوجودنا في هذا العالم ؟
إننا ولابد أن نقرر أن المعرفة وحدها لا تنهض بالإنسان متى ما كان الغبش يملأ كيان هذا الإنسان ،وما المعرفة حينها إلا غشاوة مضاعفة تزيد تبلد البصيرة وتدفع بصاحبها إلى مهاوي الرمادية واختلاط الرؤية .فتتحول المعرفة بعد أن كانت مهمتها الأولى جلاء العتمة وتنظيم المبعثر ،تصبح هي في ذاتها بلاء على البشر تزيدهم فوضى ، وتجعلهم كلما زادوا معرفة زادوا جفاء لفطرتهم وإنسانيتهم .وأيا ما كان نوع المعرفة الذي نتحدث عنه ،فإن المعيار الذي لا ننفك من الاحتكام إليه في شان المعرفة ،أنها وسيلة ولا أكثر ! المعرفة وسيلة لا غاية في ذاتها ، ويوم تصبح المعرفة غاية ،تكون البشرية قد بدأت تقضم نفسها وتعيد إنتاج نسخا مشوهة لوجودها الأول ،حيث الظاهر إنسان والباطن غابة ظلماء تتشابك فيها أشواك الحيرة والظلم والطغيان والجهل !
إن العناية بالبناء النفسي للإنسان هو أهم من شحذ رأسه بالمعلومات ، أو تخديره بالمعرفة .ولو قارنا حياة النبيين كلهم لوجدنا أن الله تعالى كان يصنعهم أولا ،صناعة تطهر فيهم قصور الإنسانية ،وتجعل الكفاح لغة يألفونها ،و الصبر عدسة يرون بها مصاعب الحياة ،حتى إذا استووا على سوقهم ،ونضجت قواهم النفسية ، كان تنزل الوحي عليهم يزديهم نورانية ورشدا ،ويصبحون مثال الرسالة التي يبلغونها ، وتصير النبوة خلة من خلالهم يقول كل من يعرفهم ويخالطهم ؛أنها لا تصح إلا لهم ،لأنهم قد هُذّبوا ورُبّوا على مثال فريد .
إننا –للأسف-حين نقرأ سير العظماء نعبر عبورا سريعا على حياتهم الأولى دون أن نلقي بالا للأمور قد تكون من جملة عوامل عظمتهم ،هذه الأشياء التي قد لا تلفت النظر ،مثل :المناصب التي شغلوها ، والسنوات التي قضوها في حياتهم الأولى ، معاناة طفولتهم ، الإحساس بالتمييز ضد مرض أو عاهة أو حتى فكرة يحملونها ، ثم اللحظة المدفع التي وصلوا فيها إلى نقطة الصفر حيث تغير كل شيء بعدها ،كل هذا هو من الأهمية في دراسة الشخصية بما يزيد على ما حققوه بعد استنارتهم ووصولهم إلى رتبة الأستاذية الإنسانية .
إن المعرفة تحتاج لقلب من نوع خاص ينتفع بها ،والعلم لا يصح أن يكون مجرد تصفح لأمهات الكتب وتخزين للمتون فليس لهذا العلم من فضيلة ، ولا ينتظر منه تحقيق تغيير حقيقي في مسيرة الإنسانية .بل حتى حفظ القرآن الكريم لن يحقق نفعه المرتقب ما دام قد وقع على غبش يملأ القلب ،وغش تحترفه الجوارح ،وما يزيده حفظ القرآن وقتها إلا حجة فوق  حجة عليه لا  له .
ومع تقديرنا للمعرفة وأنها مكسب بشري يستحق الإشادة ، إلا أن الإنسان وحتى يومنا هذا لم يخترع هذه المعرفة ،بل هو درس نواميسها في الكون ،ثم عبّر بالوسائل التي استحدثها عن الدروس التي فهمها في الطبيعة ،أي أن عجلة المعرفة الحقيقية ما تزال متأرجحة بل متوقفة منذ زمن بعيد عند آخر مثال إنساني استفاد من المعرفة في تطهير ذاته وتصوير نظرته للحياة ،أما ما بعد ذلك فهو غرور من الوسائل ،لا وصول إلى الغايات .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )