جين أوستن ..دائرة " المرأة الكاتبة "


الين واليانغ /Yen,Yan


شاهدت فيلما أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ،عن الروائية البريطانية جين أوستن صاحبة أشهر  كتابات الأدب البريطاني بعد شكسبير ، والفيلم يتناول جانبا أخيرا من حياة هذه الروائية وهو بعنوان :
Miss Austen Regrets
حسرة الآنسة أوستن

كان الفيلم ينصب على الجانب الذي يشكل المفتاح في حياة المرأة كأنثى قبل أن تكون كاتبة  ،جانب الزواج والقبول به عن غير قناعة هروبا من هرم الأيام الذي يلوح في الأفق ، ورغم أن جين أوستن كما تخبر عنها  الروايات التاريخية قد ماتت في عمر الحادية والأربعين دون زواج ، إلا أن قصتها تذكر بتناقض أرق سعيي الكتابي سنين طويلة ، كنت أرى ذلك بوضوح على أكثر من صعيد في فكرتنا حول المرأة "الكاتبة" ، وتنازع ذات " الأديبة " مع نفسها .
فمن التناقض  الأول : يتجلى عدم مقدرتنا ( أي الطرف الآخر في التعايش مع المرأة الكاتبة ) ،على فصل الأنثى عن هوية المرأة الكاتبة ، فرغم ما قد تحققه الكاتبة والأديبة من نجاح إلا أن النظرة ذات البعد الواحد تسيطر بأبجدياتها عبر معايير الجمال الظاهري والمتعة ،ليظل هذان العاملان يحددان هويتها بدل النظر إلى  قلمها وفكرها . ففي النهاية يظل الرجل يلح في طلبه على ( المرأة / الأنثى ) وليس المرأة كذات مفكرة ، وهو شرطه الوحيد لقبول الزواج من المرأة(حسب مفهومه ) ! عند ذاك نجد المرأة الأديبة والكاتبة نفسها في معضلة مع ذاتها ، هل تقبل التنازل عن " المفكرة " داخلها لقاء أن تعيش وفق ميول الأنوثة وحسب ! أم تتمسك بهويتها الفكرية على حساب الأنوثة وما يعنيه من بناء الأسرة ثم الأمومة، وكأن قلمها إنما هو حرب على إنسانيتها النوعية أولا وأخيرا .
أما التناقض الثاني ،فهو في حقيقته تبع لما سبقه ، ذلك أن المرأة التي تعبت في بناء هويتها الفكرية عليها أن تقبل بالرجل فقط كونه رجل فيما لو أرادت أن تحيا ككائن حي ، وأن تتغاضى عن معيار التقارب الفكري بينهما . وبذلك عليها أن تعيش بذاتين ووجهين متغايرين ،فهي ذات أديبة كاتبة في عالمها الداخلي ، ولكنها امرأة ذلك الرجل في عالمها الخارجي وهو العالم الواقعي !! إنها حينها تخسر قضيتها ألأولى تجاه موهبتها الكتابية فتحارب عقلها وتكسر قلمها ، وبمرور أيام الفراغ تعيش عزلة الأفكار ،وانفصام الهوية ، وعقم الحوار الذي يتجدد فيه شباب أفكارها ، فتزداد هاويتها اتساعا بين طرفي الحياة ( الرجل والمرأة ) وبمعنى أدق بين ( المرأة الأنثى والمرأة الكاتبة ) .ولعل الشعور بهذا الفراغ يزداد حين لا تتزوج المرأة بمن تفضله أو تميل إليه ،فتواجه نفسها مواجهة مريرة :فهاهي ذي المرأة المتسلحة بالعلم والفكر لا تمتلك من أمرها شيئا ، ولا تستطيع أن تفرض إرادتها في حياتها ، بل و عليها أن تنقلب على مقالاتها وتتبرئ من طروحاتها قبل أن يشار إليها بإشارات أقل ما توحيه  أنها كائن قد أمسى  جافا  من الجذب والخصب !!
لقد كتبت جين أوستن عن الحب في كل رواياتها ، وكان دوما حبا منتصرا تغذيه أحلام الشجاعة الكلاسيكية فيكون اللقاء بعد طول انتظار ،ويجتمع شمل الشتيتين حين ظنا كل الظن ألا تلاقيا .ولكن المفارقة أن تموت هي – جين أوستن –دون أن تجد الحب ، بل أن يفرض عليها الزواج – في مرحلة ما – ممن لا تحب ولا تقبل .
إن تفرد أي إنسان في سلم الفكرية لا يحسب بما يدبجه من مقالات معلقة أو كتب مؤلفة فقط ، إنه أول ما يوزن به  هو قدرة ذلك الكاتب المفكر أن يعيش حياته وفق ما تمليه عليه كلماته وذاته الأرقة ، إننا عندما نقرأت لكاتب ما فإن أول ما يثيرنا ونبحث عنه هو رحلة حياته بين سطوره ،إنه  لا يعطي كلماته الرونق والأدبية فحسب ، ولكنه يشكل معاناة إنسانية كاملة في أن تحيا وفق مبادئها  ، و لكن هذا الاختبار  يظل جانبا مخفيا ربما لا نعرف عنه إلا من السيرة الذاتية التي يؤرخها التاريخ للكاتب بعد رحيله .
والأمر بالنسبة للمرأة لا يختلف كثيرا بل لعله يزيد كلما أثبتت الفطرة الإنسانية قانونها بأن المرأة ليست كالرجل ،إذ نجد أن مساءلة المرأة الكاتبة في حياتها لهي أشد وأشق وتشحن قوتها دوما من تصميم ذلك التحدي الأبدي بين أنوثتها وعقلها داخل كيان واحد هو شخصيتها . إن النجاح في هذا التعايش بين ما يراد لهما التناقض ، يعدّ أحد معايير بقاء  المرأة الكاتبة .هذا التصارع المستمر بين أن تكون امرأة فقط أو كاتبة فقط ، لم يجد سبيله إلى الهدوء حتى يومنا هذا ، فكل اعتراف وتقدير للكاتبة يتوقف حين تدخل دائرة ( الين واليانغ = رمزي الذكر والأنثى في الفلسفة الصينية )، حيث تصبح الدائرة مع ذات القلم  ( الأنوثة و الكتابة )... تحدي التوازن الذي عليها أن تحققه دوما هو أن تكون ( امرأة كاتبة ) ، هكذا بسهولة بديهية في جمع المصطلحين ولكن بإشكالية عسيرة في تحقيقها .
-----------------------
جين أوستن  Jane Austen: روائية إنجليزية تعد من أفضل الأدباء البريطانيين بعد شكسبير ،ترجمت رواياتها إلى العديد من اللغات ، وكانت كلها تتمحور حول رغبة المرأة في الزواج ، وغالبا ما تظهر المرأة في رواياتها بصحبة قلم وورقة وكأنها ترى أن الكتابة هي الذات الأخرى لتحقيق الأنثى ،عكست النظرة السائدة في زمانها للمرأة في رواياتها ، ورغم أنها كانت نظرة سطحية نوعا ما ولكنها كانت تنجح في تصوير الحالة الجوانية لكل الشخصيات والأحداث .
قال عنها "سومرست موم"  لقد وجدت المرأة نفسها عندما ولدت جين. وقال عنها المؤرخ الكبير «مالاي » انها أعظم أدباء إنجلترا بعد شكسبير وقال عنها «والترالن » أصبحت جين مقياساً ومرجعاً نعود اليهما كلما أردنا أن نقيم أعمال المؤلفين المحدثين.
من أشهر رواياتها : كبرياء وهوى ، إيما ، عقل وعاطفة ،الإقناع .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )