ما الذي يجعل كتاباتنا عظيمة وخالدة


من الروايات العالمية الخالدة
    


 إن مما ينقل أدبا ما من المحلية إلى العالمية؛ هو ما يحويه العمل الأدبي من هموم إنسانية مشتركة ، كما أن الخلود يُكتب للأدب كذلك، بما يحويه من هذه المشتركات الإنسانية التي أهي أقرب إلى الفطرة  الركيزة في النوع  الإنساني، كالأمل واليأس ،والفشل والنجاح ،و الظلم والتحرر ،والرجل والمرأة ،والحرب والسلم ..وغيرها كلها مطالب إنسانية قديمة بقدم الوجود الإنساني، ومستمرة حتى آخر كائن بشري تلامس قدماه هذه الأرض .
والعمل الأدبي ليس مواعظ ووصايا ،وهو كذلك ليس كتاب تاريخ للأحدث المجردة ،وهي كذلك ليس وصفة علاجية للمشكلات القائمة ،إن كل هذا يدخل في عمل الكاتب ولكنه يبرز من خلال تفاعلية فكر الكاتب وورحه .إننا في الأدب الخالد نقرأ مأزق الإنسان تجاه الأحداث الكونية من حوله ، نقرأ ردة فعله عليها ،أو تفاعله معها، أو اعتزاله إياها ، ولكن في كل الأحداث فإننا نقرأ ونبحث عن دور للإنسان ،لذلك كان الدرس الأول في الأدب الخالد؛ أن يحوي موقف الكاتب من الحياة والكون والإنسان ، ونقصد بالموقف هنا ليس محض الرأي الذي يأتي سطحيا نظريا ،ولكن أن يُرسم هذا الموقف من خلال قصة وتجربة ينسج أحداثها وشخصياتها بما يوصل هذه النظرة الخاصة إلى القراء في كل عصر وأي مكان .
إن أي رسم لهذه الأحداث يتطلب نوعين من الجهد الكتابي : الأول ينصب على الحبكة الدرامية التي تجلبب بها وجهة نظر الكاتب .ومن أنواع الحبكة : الحب ، الصراع الطبقي في المجتمع ،  الحرب والسلم ، الانتقال من الفقر إلى الغنى ، أو مشكلة عائلية يكون أبطالها مساحات يفرغ الكاتب فيها رؤاه  كما حدث في الأخوة كارامازوف لديوفسكي، والغدر والخيانة والصداقة والأمومة .. وهكذا .
وأما الجانب الآخر فهو المشاعر الإنسانية المصاحبة للحدث والمتولدة عنه، وهذه المشاعر هي الروح التي ينفعل معها القارئ وهي كذلك الأثر النفسي الذي يحدثه الكاتب في قرائه ،ونحن حقيقة نقرأ الأدب لا كي نحصل على الفكرة المجردة ،فلسنا في معمل تجارب ، ولكنا نقرأ الأدب كي نشعر بإنسانيتنا المفقودة أو المجردة  وسط عتمة الأفكار المسيطرة على الزمان والمكان ، فمشاعر الخوف والفرح ، والألم ، والكبرياء ،والمرارة ، وحالات معاناة الحب وغيرها كثير؛ كلها  رهن بقدرة الكاتب على استحضار الحبكة الدرامية ووضع المشاعر في إيقاعاتها المناسبة في مواضعها الحقيقة .فالفكرة التي يريد الكاتب أن يوصلها في نصه إنما هي  الصورة النهائية لاندماج الحبكة الدرامية والتصوير النفسي .وهذا ما يشكّل كذلك مأزق الكاتب في سطوره ،ونقصد بالمأزق الرؤية التي يتفاعل بها الكاتب مع الأحداث  ليقنعنا بوجهة نظره فنقبلها أو نرفضها ، وحتى لو رفضناها فالمهم أن ندرس إلى أي مدى استطاع إبرازها من خلال أدواته الكتابية .
ورغم أهمية العنصر الإنساني في خلود الأدب ، إذ نبت الأدب من الإنسان وإليه يعود ؛إلا أننا لو حصرنا الإنسان بنفسه فإننا نكون قد ضيّقنا عليه ذاته كذلك والتي هي بالضرورة ذات  متطلعة نحو الآخر ،والآخر هو ذلك العالم غير المتناهي الذي يظهر حضوره الدائم في وعي الإنسان منذ كتب أول أساطيره حول علاقة الإنسان بالإله ،واستمر معضلة عقائدية في المنهجيات الفكرية التي رافقت الوجودية والشيوعية  وغيرها ، بل وحتى الاتجاه الصوفي الذي غزا حديثا أجزاء واسعة من كتابات الأدب العالمي ، وصار عنصرا أصيلا في بناء العمل الأدبي ، وهذا العامل الواضح وهو علاقة الإنسان بالغيب أي ما وراء اللحظة الحاضرة والحياة الراهنة ـ يتبدّى قلقه متزايدا في كتابات الأدباء ،وبات الإلحاح على تضمينه العمل الأدبي ركيزة لتسويق هذا العمل من جهة ، ولتحقيق بعدا ما ورائيا في فهم الإنسان لذاته من جهة أخرى ، ونحن نسمي هذا البعد ( التجاوز ) فهذا التجاوز للقريب والعاجل في حياة الإنسان ونقله إلى الخالق والمخلوقات غير المرئية كعالم الملائكة والجن والحديث عن درجات الجنان ودركات النيران؛ يوفر للأدب بعدا خلوديا يذكرنا بفكرة الحاجة إلى الدينونة في فكر الإنسان وقلبه ، هذه الدينونة ( الإيمان بالدين ) هي الفطرة التي فطرالله  الناس عليها ؛ لا تعني الجبر أو القهر ولا الدخول في عالم الأسرار والألغاز ، ولكنها تعني حاجة الإنسان إلى وجود آخر بعيد وهو حاضر أبدا روحا ووجدانا .فإذا كان هذا التجاوز يمنح خلودا أعظم للأدب ، فإن الحديث عن الغيب الذي يعوِّل عليه هذا التجاوز يرتكز أول ما يرتكز على أكبر غيب وأعظمه ( وهو وجود الله وكيفية الاتصال به ) ؛أي  تأثير حضور الإيمان بوجود هذا الخالق  في معالجة مواقف الحياة الإنسانية . فعلى سبيل المثال ؛تميز باولو كويلو  برحلاته التصوفية الروحية التي تضج بإشارات القدر وحلقات المراسم الشعائرية  التي تقرب هذا الاتصال الروحي ، ولعل باولو نفسه  قد اعترف أنه أراد أن يصوّر هذا الأرق الدائم في نفسه ! قد يبدو الأمر غريبا للوهلة الأولى ولكن الحق أن  (معرفة  الله ) مثّلت وتمثّل حالة قلق مستمرة للكاتب ،ومددا في إشباع قدرته على الخلود. ولعل لشيء من هذا كانت أول صفات المتقين في مطلع سورة البقرة الإيمان بالغيب ( الذين يؤمنون بالغيب ) والمتقي هو الذي استطاع فك الشفرة فعاش حياته في ظل وجود الله وفاعليته في قدره .
ما نريد أن نقرره في هذه المقالة، أن الأدب الخالد العظيم لا يخلو من معالجة وجودين متقابلين فكرة لا مساحة ولا قدرا .
الأول : الوجود المشهود :الشهادة / تمثله مشاكل الإنسان ،كل الإنسان.
الثاني : الوجود الغيبي :ممثل في العالم  غير المنظور ،ومنه الغيب الأول الحق سبحانه .هذا التفاعل الدائم  يتجدد في ضمير الكاتب بين الغيب والشهادة شأنه شأن كل الناس ، ولكن الكاتب وحده هو القادر على إبرازه في صور حية تنطق وتبكي وتضحك وتحارب وتسالم . إن كل هذا  يردنا  إلى سطر  خفي لم يكتب بعد ، مع أنه حاضر في الآداب  العالمية الخالدة ؛وهو أن الإيمان هو دافع الكتابة الجديرة بالبقاء ونقصد تحديدا الإيمان بالخالق ، ولذلك فإن الكتابة لا تخرج بحال أن تكون تطبيقا عقائديا بصورة أو أخرى . فإننا من الله وإلى الله وبالله . ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) فإذا كان الخلق ظاهرا  مشهودا للعيان ،فمن ضمن عالم الأمر ؛ عالم الإنسان الداخلي : أفكاره ومشاعره ،فمبدأها ومردها إلى الله ، ( وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ) ، فإذا أردت أن تكون كاتبا عظيما خالدا ؛عليك أن تقوي جذوة الإيمان في داخلك !.

 
( من تسمي من الكتاب الذين قرأت لهم ، من يتضح أثر الإيمان وقوته في البناء الفني لأعماله ... دعنا نضع أيدينا على مرشحات الإيمان عند كل منهم ، ننتظر في التعليقات ... شكرا مقدما )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )