التضحية :شعار الإنسانية الصامت


لكي يتحقق الخير لابد من التضحية ، فالتضحية هي معراج الطين الهابط في الإنسان ،وما أنجز البشر في وجودهم شيئا أعظم من أن يقدموا نماذج للتضحية تذكر دوما بأن في الإنسان قدرة عالية على الكمال ،، فالتضحية هي سعي  إلى الكمال .
ما منا من مولود إلا وقد استهلك من جهد والديه الكثير ،وكانت مطامعه تتقدم رغباتهما ،وآلامه ترجح بصبرهما ،وlمن دون كل تلك  الفصول الطويلة من العطاء دون انتظار مقابل؛دونها لما كان لأي منا أن ينشأ في أحضان أسرة ،وتنمو الأسرة في مجتمع ،وينضبط المجتمع في كيان حضاري تتشرف به الإنسانية ، وكلنا يرى عندما طغت أنانية الشهوة على حب الفداء كيف تدهورت أعظم مجتمعات العالم المتقدم وتفسخت فيها الروابط الإنسانية وأصبح الإنسان نفسه محدود بين غاية عاجلة أو سلعة رائجة .
التضحية كلمة عانت الكثير من مفاهيمنا المتناقضة ،ولعلها أكثر المصطلحات التي تحملت نفاقنا الاجتماعي إلا قليلا ممن صدقوا وأفلحوا .ولو عدنا إلى الاشتقاق اللغوي لكلمة التضحية ثم استدلالها الاصطلاحي لوجدنا معان أخرى تشكل في مجملها فعل التضحية على الوجه الذي ينتظر منه الخير وليس العبث .
فالمادة اللغوية تعود إلى الواو والياء والضاد :
الضحو والضحوة والضحية : ارتفاع النهار ، والضحى : فويقه ، والضحاء بالمد : إذا قرب انتصاف النهار ، وبالقصر : الشمس.
وهذا يعني أن المادة اللغوية لكلمة التضحية تميل نحو العلو والارتفاع الذي أعظم ما يُستشهد عليه بالنهار : أي لابد أن تكون التضحية واضحة صادقة حقيقية لا  تختلف عليها البصائر ،ولا تشوبها الظنون تماما كما أن النهار كلما ارتفع زاد في قوته وغشي الأبصار بنوره .ويؤكد هذه الفكرة المعنى الآخر فيقال أضحى :صار في وقت الضحى ، وأضحى الشيء : أظهره ، وضاحاه : أتاه في الضحى :وأضحى يفعل كذا : أي صار فاعله فيها ،أي العمل بوقت يكون فيه الوضوح والجلاء وهو ذروة النهار فلا يلتبس به .
ومن اشتقاقات الكلمة : تضحى : أكل فيها ،والأضحية : شاة يضحى بها ، الجمع أضاحي ، كالضحية جمعها : ضحايا .وضحا ضحوا وضحيا : برز للشمس أوأصابته الشمس ، وأرض مضحاة : لا تكاد تغيب عنها الشمس ، وليلة ضحياء وإضحيانة وإضحية : مضيئة ،وهذه كلها تدور على المعنى السابق وقد ورد صراحة في قولهم : فعله ضاحية : علانية ،وضحا الطريق ضحوا وضحيا : بدا وظهر .
أما المعنى الإصطلاحي الذي لازم لفط الأضحية والضحية : أنها اسم لما يضحى بها ،أي : يذبح أيام عيد الأضحى ،واصطلاحا ما يذبح من بهيمة الأنعام يوم الأضحى إلى آخر أيام التشريق تقربا إلى الله تعالى .
فالأضحية من شعائر الله تعالى ومعالمه التي شرعها للعباد لتحقيق معنى تقوى القلوب ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) أي أن الأهم في مفهوم الأضحية هو تحقيق ( التزكية ) والدليل أن مجرد الذبح ليس مقصودا ،ما جاء في السنة قوله عليه الصلاة والسلام ( من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة فقط تمّ نسكه وأصاب سنة المسلمين ) ،وقال تعالى ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ).وقصة الأضحية المشهورة عن إبراهيم عليه السلام وافتداء ولده إسماعيل عليه السلام بذبح عظيم إنما تدل على أن المراد بهذه الشعيرة : التضحية بكل ما يمتلك الإنسان ليصل إلى مرتبة أعلى ،لذلك قال تعالى واصفا إبراهيم عليه السلام بعد حادثة الذبح ( وإبراهيم الذي وفى )أي وفى بأوامر الله له ومن أجلِّها تقديم ذبح ابنه ليوفي برؤياه المنامية ورؤى الأنبياء حق .
إن التضحية مالم تكن مرادفا للتزكية يأتيها الإنسان طواعية بالإرادة ، ورغبة بالقلب ،وفداء بما يملك ،فإنها حينها لا تكون ذلك العمل الشريف الذي يستحق أن يخلد اسم صاحبه ،فليس المضطر كالمختار ، وليس الأعمى كالبصير ،ولا الظلمات كالنور ،ولا الظل كالحرور .وإذا كانت الأخلاق هدف من من أهداف إرسال الرسالات إلى أهل الأرض ،فإن كل شيء يخلو من الآداب الأخلاقية لا يمكن أن يرتفع إلى القبول الإلهي ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ،والتضحية باعتبارها نشاطا إنسانيا لابد أن يكتنفها جلباب الأخلاق وإلاّ خرجت إلى كونها تهورا أو جبنا ،نعم فالجبان كذلك له تضحيته الخاصة ولكنها تضحية العاجز الذي لا يملك من أمره شيئا !
فالتضحية هي ممارسة يومية يتعلمها الإنسان الذي ينشد السمو ،وتبدأ بإتمام الأعمال الحاضرة بإتقان مع التحرر الكامل من القيود ، ونقصد بالقيود الرغبات الأرضية الصرف التي لا تتعلق بأي إرادة للنفع والسمو وتقديم الخير .ذلك أن من يولد في هذا العالم عليه أن يعلم أنه جزء من موكب كبير ابتدأ سيره من عهد غير مقيد ويستأنف سعيه دون توقف فإذا عاش الإنسان لملاذه القريبة فإنه يعيش خارج الركب ولا يساهم في إحياء العالم من حوله . ومن هذا فعله فإنه يكون مطمئنا بنفسه راضيا بذاته غير جريء في حق ولا بعيد عن باطل . وصاحب التضحية لا يعتمد على أي أحد في إنجاز عمله لأن هدفه واضح وتضحيته منبثقة من داخله وحده وبقدراته وحده ،لذلك لايخو إنسان من قدرة على التضحية كما لا يخلو إنسان من قدرة على كونه إنسان .إن الكون تنتظمه قواعد لا تكسر ومن يتبع هذه القواعد يتصرف بتلقائية الكون فلا يتوقف ولا يفشل فنحن ما سمعنا على طول تعايشنا مع هذا الكون أنه فشل مرة في أداء مهمة مقننة داخله ،لذلك فإن أي تدهور أو خذلان نتذوقه في حياتنا أو أي عورة تظهر سوأتها في معايشنا إنما مردها خلل حصل في التوازي مع قواعد الكون ، فتولد النشاز والتصادم والتقاطع وكل هذه المصطلحات أتت من افتراضات حدوث اختلال ما في حياة البشر ولا عهد للكون بها .ولانعجب لو راينا أن أبرز فعل الكون معنا بل وفي ذاته هو التضحية ،فكل حركة وسكون في الليل والنهار ،وكل أفول وطلوع في السماوات والأرض مرده إلى رغبة الكون في إنجاز ما أوكل إليه من عمل يؤديه لنفع الجنس الإنساني الذي خلق مسخرا له ،وقد رضي الكون طواعية بهذا التسخير وطوى عنه إرادة الاختيار وفضّل أن تكون التضحية فعله المكلف به .إن تسخير الكون هو درس التضحية الذي ولد مع الوجود ومالم نتعلم هذه الأبجدية الأولى أن التضحية تعنى : التزكية .. إنجاز العمل دون قيود ..العمل بقواعد الخالق والانضابط لمصلحة الخلق ، فإننا حينها لا نكون فهمنا هذه اللطيفة الأزلية ( التضحية ) التي تلازمنا كل يوم ملازمة النفس للجسد بل هي أقرب ، لأننا قد نضحي بالنفس والجسد في سبيل الوصول إلى الله .
--------------------------
 المراجع : البحر المحيط : باب الواو والياء ، فضل الضاد ( ضحو ، ضحي )
الموسوعة الفقهية : موقع الدرر السنية ، تعريف الأضحية ومشروعيتها وفضلها وحكمتها

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )