لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

Dream Rowing

في ليلة نفضت فيها السماء نجومها ، وأقلع الياسمين عن بث الكون حكايا الأمل ، واكتظمت الأرض كل قطرها فلم تُبق سوى الدمع سقيا للشاكي المحزون,,, في ليلة شرع الليل ينشر سكونه في أروقة الوجود وكأنه يرسل للأموات رسالة عزاء مفادها : أني أقتص لكم من ضجيج الأحياء لأبقي الموت حضورا أزليا في وعي الحياة ! ومن دثاره الذي يسدله على الكون كفنا يشمل التائب في محرابه ، والعاهر في حانته ، والطفل في مهده ،،، والعاشق المتيَّم !!! يالهذا العاشق كيف يتصارع الليل في فؤاده ، وتصطخب شعواؤه في عقله حين يريح عليه صورا شتى تقتطع فسيفسائها من رسم الحبيبة الراحلة ، أو عشق الحليلة المنتظرة!! تارة يُذكِره سوادُه شَعْرَ الحبيبة مائجا على نضارة محياها فيمد أنامله لتلاعب خصلاته المتشاكسة فيزداد مجونه سحرا ، وأخرى يخيل إليه أن نسمات الليل هي بقيَّة أنفاسها تفور في صدره بعد لثام طويل قطع فيه وهاد البعد وغسل عنه جفاف الهجر. أما أريجه المُسْكِر فيُحْيي في نفسه أثرا من غاليتها وهي تتضَوَّع في أعطافها كلما أقبلت أو أدبرت ، وكأنها صوت الوشاية الصَّادح لكل ما لمسته يداها أو عانقه جسدها المتلألأ.. وفي جسده هو الكثير من هذا المسك !! في ليلتي تلك الشاردة من صرخات الأنين الظليمة في مقاصل الظلم ومطاحن القهر؛ حيث الظلام زمن لا انقضاء له والنهار أمنية دونها خرط القتاد ، و حيث المتهجدين في روحات الأنس يرعون النجوم وينظرون يوما تقام فيه أعراس المثوبة ، لتزف أجسامهم الضاوية إلى جزاء الحسنى الذي وُعِدوا ، والفردوس الذي نَشَدوا ..في ليلتي تلك أرهقت ترياق الحياة ، وعكفت في بهو الموت أصطبر قدوم الداعي ، وأزجي حداء الناعي ،وقد ارتمى الجسد على وثير الهمود البارد موفيا للروح قسم الرحيل ،ومودعا آخر أنفاس البقاء المرتحل أجداث الفناء المقتبل,.حين كنت على تلك الحال ، وفي دياجير تلك الوحشة ، إذ انفطرت السماء عن لهاب من نور استقر في عقلي ، و رعشة من أمل بعثت ذكريات الحلم في مخيلتي ، فرأيت فيما يرى النائم رسول الحق و أمين السماء يحلُّ في غابة حياتي المقفرة ويسكَِّن روع حجابي المهترأ بفارس من سلالة النبوة معدنه ، ومن أنفاس البيت الكريم محتده ، تاهت صورته في البصيرة ، وظلت أصداؤه في قلبي متصادحة ، وتراتيله في خاطري متعالية ، هناك و في غفلة من الوقت انقضت الرؤيا!! انتبهت بياض تلك الليلة من نومي وقد أحسست بروح جديدة تلتحم بجسدي ، روحا عجنت بقدسية السماء ، وامتلأت من رحيق القربة ، فلم تتركني حتى كنت "أنا" الرؤيا غير "أنا" قبل الرؤيا . تمازجت في دمائي طعم الحياة المنعتقة من الموت ، وشتَّان ما بين الحياة حين تخرج من الحياة ، والحياة حين تخرج من الموت ، فالأولى على همٍّ وإلى عدم والثانية على حبٍّ و إلى خلود. وما عدت بعدها بالتي ترى في نفسها شيئا تعهده أو ماضيا تعرفه.
انقضى الزمان طويلا على ليلة الرؤيا وما أراني اليوم إلا كريشة في مهب ريح غريبة عن الكون ، بعيدة عن الأرض ، أشتكي مُرَّ فراقٍ لم يسبقه لقاء ، وأكتوي جمر وداعٍ لم يرسمه احتضان .عرفت العشاق يهمي عشقهم بُعَيْد نظرة عابرة أو رنَّة حانية أو لمسة دافئة ، وأنا أَصْبَى فؤادي المحرَّق طيفٌ من الغيب لاح ، فأبلى بي الوجد من الأرق ما باعد بين الجفن والوسن ، فأورثني عينا هموعا ، وقلبا منفطرا ، وروحا مرتهنة إلى أجل الظاعنون بكل أرض للقلب فيها موئل نشروا لي لواءً وأخذوا يتوارثون حكايتي في أجيالهم : ألم يأتكم نبأ تلك الراحلة وراء الرؤيا ، النائية بها ديار الدنيا.
قد صيَّرتني يا هواي البعيد عبرة لمن تغنَّى بهوان الحب ويسر الصبابة و سهولة الوصال ! برى السقم من جسدي ريعانه ، و حدّ الشوق من عقلي أفكاره ، وسلّ السهاد من مآقي سر موتها ، فما بقي مني غير خيال يذكر بأسطورة إنسان "كان " تناسى النسيان أن يوريه قبور العدم ، فتركه شاهد الماضي في وهج الحاضر.
إليك يا خطيب الغيب شكوت مُبرَّح الأشواق ، واستجرت بأرض اللاهثين إلى الرفقاء ، كم تقلَّبت في أوضاع المحبين؛ فتارة تأمَّمت ليلى في كتمان هواها ، وتارة تمثَّلت الأخيلية في شدو حبها ، فما أجدني نَعِمْتُ من ذلك كله إلا بأليم صبر معذِّب ، و لهيب زفرة حارّة توري الجوى وتمزق ألحاظ الكرى.
قمت في محفل العاشقين عميدة فرفعت لواء اسمك فوق قبور الأولين و مهاجع الآخرين ، حتى لهى التاريخ عن رواية قصصهم وتسطير ملاحمهم ، وانبرى يستشهدني شهادة النور في قتل الحب ، وشهادة الحب في قتل الحياة إليك يا خطيب الغيب أنظم عتائق قلبي وهو يزفر نبضاته قبل أن تجافيه هي يأسا من طول ما استكتمتُ خباءه حرَّ الغرام ؛ كي أحمي ذمار عشيرة لا ترتضى لحرائرها أن يُزجين شوق قلوبهن ؛ لئلا يهتكن ستر الصّون ويرخين لواء العفاف ،عالجت قلق البوح أمداء طويلة وأزمنة عتيقة صونا لمياه الحياء أن تملح في وجه الأنثى ، ولكن الجوى اصطلى حتى احترق كمدا ، وأعظمي استأسدت من صمتي حتى انقدحت أقلاما يؤرخ بها العشاق سطور وصالهم ، وسرى في عروقي أخاديد دمع يعوض جفاف ماء العين الغابر، ونسخ ( الآه ) في معجمي كل حرف تعارفه البشر لينشر مكانه دهشة عشق تعاظمه الزمن يا لهفة الأرض إلى السماء ازدحم الرجال في دارة خِطْبَتي ، فأرخيتُ نظري عنهم صيانة لغيبتك ، وشهودا لحضرتك ، وأرسلت فيهم حادي الرحيل يحدو في أنديتهم أن البيعة قد انعقدت وأن الحرَّة قد انفطمت ! أتعلم لماذا ؟ لأن أيا منهم لم يكن أنت ,,, لم يكن الرؤيا! لشدَّ ما تقرَّحت روحي وأنا أهدهد جوع الأنثى إلى الرجل في داخلي ، وأحبس لهف النفس إلى السكينة الدافئة في صدر يُعِيد ضلعه الحيران إلى محضنه ، ويلف خوفه بأمان اللُّقيا ، كم أحنُّ إليه ، وأتمرغ الأحلام في احتضانه والعبث في امتداده تخرجني فيها يا -لهف الفؤاد الملتاع- من دير العذارى العواتق وتقطع عني تبتل الرهبانية الهشة ،كم أرقب اللحظة التي وعزلة الفرح القصي ,,,يا أنيس الروح من قال بأن الحب يطمس المواهب ، أو أن العشق يُبطل الفطن ، هاهي قريحتي تفترُّ عن جمان اللفظ بما ليس لي به سابق عهد ، وهاهو البيان يطرِّز أناملي لتحيك رسائل الاحتجاج في معارض الهجر والهوى ولا أجدني تعلَّمت النظم إلا من دروس الاشتياق إليك و محاكاة الكَلِمِ في عينيك فَلْيَحْمِلْها عنّي الزمان : إن العشق يفجّر احتباس البليد ، وينعش قريحة الحصور ، ويطلق لسان العيّ المحتبس، العشق يضيء في النفس قداسة السمو فيحيلها شفيفة طاهرة حاضرة لقبول وحي الإلهام فتأتي بما يُعجز الشعراء ويُحير ألباب البلغاء الفارغين من ذوق الوله الحب ماء النور انزوى في غدير من ناحية السماء لاتَرِده إلا قلوب المحبين فتتعمد في مياهه ، وتتزكى من قطراته ، فتعود ترى الوجود طاهرا كما الأمل الذي يتجدد في لقاء الحبيب ,,,, آه ما أجمل ذلك الأمل لو تحقق منه المراد !! بقاءه هنيهات لقاء ، ورحيله وريقات فراق ، وبينهما تواعد على العهد وتعاقد على دوام الودّ ما أجد مثلينا –أنا وأنت - إلا كشمس وقمر يتلاحقان دوما ولا يجتمعان أبدا ، وكل تراسلهما ما تنثره الشمس على القمر من نورها لتحيله وجودا قائما في السماء ، فأنت في ذاك الشمس وأنا هنا القمر ، أو كما يؤنس القمر قلوب المتعبدين بعد قيظ الصيام الطويل ، فأنت حينها القمر المؤنس وأنا الشمس الغاربة من جهد الألم والعطش هاهي الذُّكاء تزحر آخر كريرٍ لها في رحم الوجود ، تودعه غروبا شرع يقرب الحنوط والكافور لآخر أمنية رمت بها في زفير النهار الآيس ، وها هو الليل يعود بجبروته القديم ، يأبى إلا أن يجلببني بعباءة الحداد ، فلا أنا ممن يُعَزَّى بالثلاث ، ولا أنا ممن تنقضي أحزانه في بطون الأقمار واحرّ كبدي مما ألاقي من فورات تلك الصبابة ، قرأت عنها كثيرا و ما ظننت أن تلهب حشاي بأوارها ، أو أن تحل مني موضع الرأس من الجسد ، و غوث المياه من الأرض القفار يا للعشاق ، لو قدر لي أن أوزع العذاب على العالمين لما كتبتُ عليهم منه شيئا فحسبهم ما عالجوا من عذابات الحب وصرعاته لكل علَّة سبب تزول بعلاجه وتقمع بإبطاله ، وأنا علَّتي روحي الصابئة إليك فكيف إلى دفعها من سبيل ؟ فما أشد استحكام علَّة بقاءها في بقاء معلولها ، ورحيلها في موته ، فهل أُوَدِّع مني الروح كي أشفى من ذا التصارم الضاري منك ؟؟ يا ويل المرأة حين تشتكي من الحب ، فهي حينها تكتب عن قلبها ما يمليه من تقلبات وأحوال ، والرجل عندما يبوح فإنه يترجم عن جسده ما يتمخضه من تصورات وأهواء ، وما أبعد ما بين القلب والجسد في آلام الشجن كما بين التراب والرماد ، فأحدهما للحياة ، والآخر للفناء ، فكذلك المرأة تحب لتفنى ، والرجل يحب ليبقى إلهي أنت من وهبت الرُّؤى قبسا من الغيب تُحِلُّه في روحي ، وما أنا بالنَّبِيَّة كي تذيقني اختلاط وحي السماء بضلال الأرض ، إن أنا إلا خريدة يتيمة في سجل أقدارك وروحا في صور أرواحك ، فارحم لظى هذا الضعف الساكن في زواياي ، وهبني وصال ذلك القبس ، ذلك الرجاء ، ذلك الرجل!! أو احملني إليه في سماء نتلاقى فيها تحت ظل عرشك متحابِّين في جلالك ، لغيب حفظناك فيه ، لم تجمعنا لذائذ الدنيا وعلائق الشهوة، ولم نسمح للخيانة أن تغتال طهارتنا ، ولا للخطيئة أن تسطِّر أسماءنا ، بل صهرنا أرواحنا في صبر المجاهدة ، وألزمنا أنفسنا خوف المراقبة ، وبسطنا على أجسادنا مسوح العفاف ، ووقفنا عند عتبة وعدك الحق بألاَّ تجمع على عبد خوفين ، ها قد خفناك يا إلهي في الدنيا أفتأذن لنا بالأمن معا في قدسك في الآخرة ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )