لماذا نكتب ؟؟

سؤال كان دوما لغزا أرق نظّار المعرفة الإنسانية ؟؟...
إذ تقوم حضارات وتندثر أخرى ولا يبقى منها سوى نقوش كتابات نبدأ عبرها قراءة جبين الماضي ... ويثرثر على أطلالها عجائز التاريخ في هزيع العمر الأخير ...
إنه سؤال الميلاد ..ميلاد إنسان جديد من تزاوج الكلمات والأفكار ، و ميلاد دراسات واسعة لعلوم النفس والاجتماع حين تبحث عن إجابة سؤال أول: ...
متى كتب أول إنسان ، وماذا كتب ؟؟....
نحاول هنا أن نرمي في كل اتجاه شباكا علنا نقتبس الإجابة ، مع يقيننا بأن السؤال سيظل أرقا يلمع في نفس الكاتب والقارئ على حد سواء ، فالحرف هو كلمة السر بين القراءة والكتابة ، وهو صراط العبور بين عالميهما المتشابكين .
قد نكتب لأننا بالكتابة نقوم بواجب الإنسانية فينا ، فنحن نحاول أن نحاكي إرثا في لا وعينا تشكل عبر العصور على أن حظوة الإنسان عند إلهه تتمثل فيما يجاوبه عبر الحرف والكلمة أو قل في الحديث والنجوى ، كما أن آية الصدق لكل نبوة أن يأتي الرسول بكتاب يتلوه أصفياؤه وحواريوه ، يكون دستوره الشامل لمن يدعوهم ، وربما للإنسانية كلها ...
ومع الكتابة يأتي وجه العملة الآخر : الفكر ، فبالفكر نلبي حركة العقل المتطلع نحو الاكتشاف ، ومتى تجرد إنسان من كلمة يكتبها أو فكر يعالجه ، فإنه مع ميزان الإنسانية في تطفيف..
قد نكتب لأنها معركتنا الرابحة في التغلب على عجزنا الإنساني ، وظروف واقعنا القاسية ، نرسم بالكتابة عالما نشكله وحدنا لا مكان فيه لمطرقة أو سندان ، نطبق فيه أبجديات خلافتنا التائهة في تعمير الأرض وزغزغة الكون .
وقد نكتب لأننا في نشوة لأن نستعرض قوة أنفسنا ، وذكائها في جمع شتات المعاني المتناثرة بين سماء الروح وأرض العقل .
وقد نكتب محاكاة للذة ذاتية بأن نعمّر في الحياة أكثر من عمرنا المحدود وقدرنا الراهن ، فإن شئت كن ملكا متوجا على عرش الخلود ، وإن شئت كن عابدا يناجي مولاه عبر تجليات الأنس ،، أو فارسا يطوي الكون بين حد سيفه وقوس رمحه .. فلك ذلك كله بعصا الكتابة .
وقد نكتب لأن بداخلنا بحثا دؤوبا عن حقيقة قلقة نحاول أن ترخي هدوء اليقين عليها في ضمائرنا .
وقد نكتب بحثا عن وجودنا وخلودنا الذي تعثر في طاحونة الإنسانية المختلطة ،فالكتابة هي بصمة الوجود لكاتبها و لا مجال لظنون الادعاء أن تسرقها ، فهناك دوما قلب الكاتب وروحه تتراقص على صفحات بياض متعاشق ، تقرؤها الأجيال وتردد: ذاك هو الإنسان المحدد .
وقد نكتب بحثا عن روافد اتصال جديدة مع مجتمعنا ، نقبل منه آصاره ونستمتع بالتحرر منها ، و نغذيه بإضافات جديدة تحرك مياهه الراكدة.
قد نكتب لأن النفس أقل من أن تتحمل هموم الدنيا ونكدها ، وبدل أن نلتف حول ذاتنا في صراع ضيق ، نجعل كلماتنا تحمل عنا عبء الدوران في ساقية الألم.. . أو لعلنا نريد أن يسمع الكون لحظات السعادة التي ننتشي بها ، فبين الفرح والترح خيط رفيع تقتات عليه الكلمات وتحاوره الحروف .
سئل عدد من ابرز الأدباء لماذا يكتبون فكانت إجاباتهم كالاتي : -

قال الأديب البرازيلي جورج أمادو: "أكتب لكي يقرؤني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم، ومن ثمة استطيع المشاركة في تغيير واقع بلادي وحمل راية الأمل والكفاح"
وقال الأديب الصيني باجين: "أمارس الأدب لكي أغير حياتي وبيئتي وعالمي الفكري"
وقال الأديب الكولومبي جابريل ماركيز: "أكتب لكي أنال المزيد من حب أصدقائي".
وقال توفيق الحكيم: "أكتب لهدف واحد هو إثارة القارئ لكي يفكر"
وقال محمود درويش: "أكتب... لأني بلا هوية ولا حب ولا وطن ولا حرية"
وقال الأديب التشيكي ياروسلاف سايفرت:
"أكتب... ربما تعبيرا عن الرغبة الكامنة في كل إنسان في أن يخلف وراءه أثرا
قد نكتب لأننا بحاجة إلى الإجابة عن تساؤلاتنا المبهمة ، ونحاول أن نروي غليل استفهاماتنا المتعطشة ... عن الكون ، النفس ، القدر ، عن الوجود كله .. وجود الداخل ووجود الخارج .
وقد نكتب لأننا نريد أن نقول ( لا ) دون أن تلاحقنا طيور الظلام ، أو تخنقنا سراديب المنع ، ندفع خوفنا الفطري من جبروت جانح مازال يرمي بأصدائه منذ أول فرعون أوتي ملك مصرا ... وكي نريح ضميرا يرفض أن يقر بسلامة الاضطهاد شريعة في المدنية القائمة .
وقد نكتب لأننا نريد أن نقرأ أنفسنا ، وأن نعرف سمو طموحها ، أو نمسك بهالاتها المختلطة وسط شعث الواقع المتراسلة علينا .
وقد نكتب لأننا نريد أن نتخلص من ماضي يئن في عقلنا الباطن ، يحاول جاهدا أن يرسم حاضرنا من منظاره الأسود القاتم ،فكم كانت الكتابة شفاء للعليل ، ومواجهة حاسمة في دوران الحياة ... نصرخ في وجه الماضي : كفى ، كفى .. لابد أن تظل كاسمك ماض وأن تعود بهدوء إلى قبرك الشاغر..
رحلة نعود بعدها بقلب كقلب الوليد وعقل نقي كيوم ولدته أمه ...
سئل الروائي الإنجليزى المعروف أنجس ويلسون ذات مرة :
- كيف اتجهت إلى الأدب والكتابة في سن متقدمة نسبيا؟ وكان ويلسون قد بدأ الكتابة في سن الثانية والثلاثين،عام 1945.فأجاب :
- في عام 1943 أصبت بمرض عصبي لازمني نحو عامين. وكان قاسيا إلى درجة أنني كنت أهيم على وجهي في الشوارع، وأصرخ. وعبثا حاول الطب معي. وذات يوم نصحني البعض بالكتابة لعلها تخفف عني. وحاولت أن آخذ بالنصيحة، فاكتشفت أنها مفيدة، وأن الكتابة أصبحت بالنسبة لي علاجا فعالا ومحببا، فداومت عليها، أصيب مرة وأخطىء مرة أخرى، حتى بدأت محاولاتي الأولى في النضج.

وقد تكتب لأننا نريد أن نقنن علاقتنا بالآخر ، أن نعيد ترتيب أولوياتنا ، ونحدد لكل ظرف في حياتنا موقعه المحدد في خارطتنا الذهنية والروحية ، فلا مجال لأن يستعمرنا فرد يفرض وجوده علينا ، ولا وقت لبعثرة قادمة من أنصاف بشر أو طوارق ...بل ليظل دوما جدارنا النفسي أقوى أن يخسر في معركة اليقين

قد نكتب كي نبرد شوب قيظ يلهث من جفاف العاطفة وانقطاع قطر القلوب ، في عالم تتسارع فيه المادة ويتأخر فيه الإنسان ، ربما نحاول أن نعوض حنان أمٍّ تخلت ، ووالد تململ من أبوته القسرية ، أو ربما نبحث عن روح جديدة تشاركنا تأمل حبات الرمل وهي تنقلب في ساعات العمر الأخيرة ..
وقد نكتبلأننا نريد أن نهدّئ العالم من حولنا ، أن نبثّ فيه سكونا يجعله مكانا أكثر أمنا لحياة الإنسان ،، نثبت داخله للروحانية حسابا قائما ، وللعقلانية سجلا ضابطا ، وللجسد مهدا آمنا ... لسنا نصارع ولسنا نهادن ، ولكننا نبحث في الممكن ، نفتش عن أقرب مشكاة نستحث لمعات زيتها لترينا إمكانيات التغيير عبر أشواك الغابة وردهات القلعة .
 وقد نكتبلأننا نريد لميلاد أن يستكمل سرَّه داخلنا ، لينتج عنه بواكير إنسان نسعد بأن يشاركنا أحلام الورقة والقلم... أو ربما لنتخلص عبر ذات الميلاد من مَسْخ طالما أجهد آمالنا .. نقتله في أكفان الورق ، وندفع خيبته بالقلم ، فالكلمة روح جديدة ، والكاتب وحده من يستطيع أن يجعلها رَوْحًا من الجنة ، أو زفيرا من النّار.
 وقد نكتبلنقدّم أنفسنا للحياة ، ندفع أوراقنا الصفراء المعتقة برحيق أفكارنا وتأملاتنا ، ونحن ننادي بملء أرواحنا : اقرؤونا لتعرفونا على الحقيقة بشفافية الماء الذي سكبنا منه ، فقياس أقنعة البشر لا تناسبنا ..
 وقد نكتب لنكمل نقصًا اعترى خَلْقَنا الأثيري ، لا نعترض على القدر ، ولكننا نأخذ عنه القدرة على التغيير ، لنمارسها في إعادة رؤية شمسنا البعيدة ، أو الدقة في تشكيل أقمارنا المكتملة 
.وقد نكتبلأننا نريد أن نفتح أعينا عميا ، وقلوبا غلفا ، نحبك ترتيل الحقيقة في نصوص التنزيل ، نتأسى صيارفة الرجال في اعتدال الجرح والتعديل ، علّنا نلتمس لحائر جوابا ، ولضال هدى ، أو لشارد محضنا يؤويه ، أو لمتعنت تذكرة تحييه .
 وقد نكتبإذعانا لهمس القلب اليوم ، كما انصعنا لعقال العقل في الأمس ، نبحث عن خُلَّة تتمدد في حلمنا الحثيث بشطر جديد قديم نعيش به ومعه ، نحتفظ لأحلامنا أن تكسرها قصبة النصيب ، و بدل أن نقبع في زاوية اليأس وبكاء النّحس ، نظل نقول أن يوما... ومع نهايات الأفق أمام الساحل الأحمر سيأتي الفارس ، وعلامة صدق النّبوءة ساعة انتصابة القلم وانقداحة الحرف .
 وقد نكتبكي نبعث دعوات رحمة للأموات ..!!! ولمَ العجب ، أموات الدّار وأموات الدّثار كلاهما في الميزان سواء ... أموات الدثار في برزخهم ينتظرون أن نبلغ عنهم قصص الرؤيا والعبرة لأبناء وآباء فارقوهم في دروب النسيان ، وأموات الدار يتصارعون في الاحتمالات والفرضيات تاركين للإنسانية أشباه بوابات نحو مجهول أشد خفاء و أعتى اضطرابا

قد نكتب تجربة لسنن تنتفض من إيجابية واهمة ، وتتمايل في إرجاء الألم ولو إلى حين..

نجرب الكلام قبل أن يحل الصمت

نجرب العدل ريثما يعمّ الظلم
نجرب العزيمة لنقتل الخذلان
نجرب الأمل ليرحل اليأس
نجرب الحياة لنؤخّرالموت
نجرب الحرية ليتحرر العبيد
نجرب الأمن ليسكن الخوف

نجرب الشجاعة ليذوى الجبن

نجرب الذكرى لندفع النسيان
نجرب الفرح لنقمع الحزن
نجرب الرضا لنخفف السخط
نجرب الأنس لنستروح الوحشة
نجرب العلم لننيرالجهل

نجرب الجمال لنحمد القبح

نجرب الوصال لينأى الهجر
نجرب الأنثى ليهوى الرجل
نجرب الرجل لنعشق الوطن
نجرب الطفل لتزهر الأيام
نجرب النور ليبصرالظلام
*****************************


قد نكتب لنجدد الحياة!!! فنحن نهرم في العمر ، و نتصابى في القدر ، الموت لدينا معادلة من انكفاءة الحرف في وعي القلم ، والفناء مساواة من رحيل الفكرة عن فقه التذكرة ، والوفاة آية من فشل المحاولة في ممارسة التأمل
*************
قد نكتب بحثا عن الأحلام ، وإثباتا للرؤى ، قشة الغريق في معاطن اليأس ، وعصا الهزيل في سفر الوحشة...
الفارس الأبيض علىالجواد الأبلق ، والحسناء النجلاء في الجمال الأوحد ، والنصر في معركة فاز النصيب بخسرانها ، والغنم في فتح غلَّ الغريم بإفلاسه ، والفلاح في سعي قامر المريد فيرهانه ... كل ذلك تراتيل الحلم في سمع المسرف على الأمل..حلم نراه بالأمس ونخطه اليوم ، ولكنه لايولد في الغد إلا في سطور اللاهثين في تشاكس الحروف..
لذته في التلاشي ، ومتعته في الرحيل ، وروعته أنهبعيد ... ولكنه تجربة للبقاء!!
*******************
 قد نكتب لأننا في اشتياق لأن نعيش حالة حب دائمة ، مظنتها الوفاء ، وسرها دوام الأنس بالمعشوق ، نبحث عن إِلْفٍ بدفء الرحم الذي جمعنا ، ورفِيقٍ بحكمة النبي الذي هدانا ، وبسمة بنور الملاك الذي حفظنا ، معه تتعارف الأرواح المختلفة ، وتنصهرالأجساد المتشاكسة ، وتتجاوب ترانيم اللقاء في ابتهالات المتذللين بالأسحار ،والمتناجين بالأسرار ، والقمر من فوق ذلك كله شاهد الوصال و كرة الأمنيات.
عندها تذوى بهرجة الزمان ، وينفسح ضيق المكان ،وتتراءى البتول وهي تلج بسكينة مهيبة واحة القلب الحيران .... حيرة الحب وحيرةالسَّطر
قد نكتب صبرا للعدل ، ورباطا في مجون الظلم ، حين ترخيا لآزفة خمارها مضرجة بالدمع المعتم ، ننصب موازين عدالة تلعثمت في شهادة الزور ،وعشيت في سنى القسط ، نوزع الثواب على البائس ، ونقيل عثرة المعتر ، ونهب الفقيرنعيما تنوء بخطره ألباب أولوا الحلم من الرجال...
وعلى ضفاف الروح نعزي الثكلى بمؤانسة الراحل عن الأيام ، ونؤوي اليتامى بمعانقة الطريد من سجل الاباء ، نجمع شتات شجاعة هرمة ، ونجدل حبال قوة وليدة ، لنؤمّن الداعي في إقامةالقضاء ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لايظلمون)
فالحساب قائم ، والجزاء معقود ، والقلم من ورائهما صدى الحقيقة المشرقة على أرض بلقاء من الإثم ، جرداء من الفجور ... هي أرض الهويةالواحدة: العدل ولاشيء غير العدل
قد نكتب طمعا في تكثير الحسنات ، وترجيح الموازين ،يداعبنا الرجاء لنكون أدلة على خير محتمل ، تنقدح شرارته من وضاءة كلماتنا ، أولنكون شروطا في تعاقد المعروف ، وشهودا في تزاوج المودة .. نلوذ من الجهل بعقال من العلم ، نرمي العقل بقدح الصحوة ، ونحسب للفكر نذور البصيرة ، ونذكي بالمعرفة نهايات الأفكار الخاملة ، ونزاحم بالإيمان فتور الروح المترددة..
ونصرخ في دار المصير: آن للكرامة أن تعيد للإنسان حسابه ، وللعقل ألقه !!
****************************

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )