بيت الطين ( قصة قصيرة)

كعذراء يستفزها الخوف من عبث الغرباء ؛ تتكوم بلدتي الجنوبية على حذر يقتل سكينة أهلها من خرافة " شياطين الشمال " !!
حين يسيطر الخوف على الإنسان يذره قاعا صفصفا من الإقدام ، ويروح معه العقل ليلا بهيما من الإدراك ..!!

بيتنا الطيني شرفة من شرفات ذلك التوجس الدائم .. أوراد الصباح والمساء فيه لم يضبطها إسناد ولم يتواترها رواة .. ولكنها التميمة القابعة في وعينا من صوت أبي المتكرر : احذروا الشمال فإنه لا يأتي بخير !!
على شفير الأعمار كانت الصور المرعبة للأساطير الشمالية تتضخم .. الرفض المستمر من السفر خارج حدود البلدة نستره بـ "لاءات" الجبن الكامن بين أضلعنا أنا وإخوتي .. نتحرك وفق بوصلة تعطلت منها إحدى جهاتها فظلت تدور حول نفسها .. حركة ولكنها في فراغ ...!!
لما بدأت مكيفات الهواء تغزو البيوت المحيطة بنا منذرة من تغير مجتمعي تفرضه أسلحة الشمال الباردة ، عمد أبي في كل ليلة إلى إذكاء التوجس القديم : تلحَّـفوا جيدا فالبعبع الشمالي سيظل يزأر طوال الليل !!

ربما لأن بيوت الطين تسمح بنفاذ الأصوات بين شقوقها ؛ استقر العرف على تباعد البناء عن بعضه حتى لتترآى البلدة وكأنها حصى ملون نثر على موج ذهبي .. منظر ينعش الجمال في عين السائح ولكنه يشي بسرِّ الإنسان الجنوبي : الحرص على عدم البوح لأحد بما في نفسه من ترح أو فرح ؛ بل لو استطاع أن يكتم مرجل أحزانه عن نفسه لفعل مخافة أن تجد ملجأ عبر تعرجات الجدران الطينية ..!!
وحين تنكسر هذه السُّـنة تتقاذف الأفواه القيل والقال حول البيت الذي لا يصمت ..، ذاك هو بيت "أم الأسير" ... كما صار يُسمّى !
تستخفي فيه عجوز أكل الدهر أغلب قواها ولم يبق لها سوى نزر تستعين به على الصراخ في مظاهرات التأييد لمعتقلي غوانتامو ، ومرتعا تقتات عليه منظمات حقوق الإنسان واللجان الشعبية المناصرة.. حتى إذا انقضى ما تبقى لها من حَوْل ارتخت وحيدة تتسلى بالحزن فتسارع إليها أختي لتسعدها بالبكاء .. كلاهما تحلقان حول رجل واحد :
" لا تبكي يا خالة لقد أنهيت حياكة فستان الزفاف وسأحرص على ألا يزيد وزني كي يكون جاهزا وقتما يعود الفرح !! لا تبكي فإني أنتظر وسأظل أنتظر !!.."
الانتظار سنة المرأة الجنوبية !!
الحديث في البلدة الجنوبية عميقا بشدة مراسها الضارب في الجبال حولها ، ولكنه أيضا عفوي كعادة الرعاة وهم يغنون لأغنامهم ..
كلمات من مثل : العراق .. أفغانستان .. أمريكا .. تتحول إلى رموز بشرية لأشخاص فنوا أو فقدوا في تلك البلاد البعيدة .. قدر بلدتي الجنوبية أن تسري دماؤها في كل أرض شمالية رغم إصرارها العنيد على البقاء بعيدة عن أي شمال !!
------------------------------------------ 

السهرات الليلية تقام في بهو بيتنا ...هي كابوس مزعج لأحلام يقظتي القليلة ..
تتلصص النساء على متابعة أحاديث الرجال وهم يتراشقون كرات النار: السياسة ، التجارة ، الغلاء ، عقود الزواج ، الشعر والأهازيج .. فإذا ما اقتربت الثامنة من مخدعها توسط أخي المصطبة وأخذ يحدّث عن قصص الآثار التي يكتشفونها خلال جولاتهم الاستكشافية في أخاديد بلدتنا الجنوبية .. ما إن يثمله الزهو بأمجاد ما يصنعون حتى تقطعه سخرية طاعن في السن ينبعث دخان الأرجيلة من تضاعيف أنفه " أنتم علماء الآثار عابدو الأصنام الجدد !! لقد انقضت الأصنام ولكن عابديها ما يزالون على قيد الحياة ..!!"
تتعانق الضحكات خلف الشرفات .. تتشابك خواطري من التفكير في عناء تنظيف كل هذا !!
ويعود الصباح التالي كالصباح الماضي ..!!

------------------------------

 الجو حارق هذا الصباح .. تبدو الشمس وكأنها رسول جهنم البعيدة ..!! حظ بلدتي الجنوبية من صفاء الطقس كحظها من جفاف الفقر؛ يبدوان معا كخطي سكة حديدية تفصل بينهما مسافة ثابتة لا يفترقان ولا يلتقيان ..
نسمات باردة ضالة هي كل ما أشتهي في هذه اللحظات كي أتم معركة التنظيف اليومية ..

" أمازال أبوك يحارب جنونه فلا يأتي بمكيف يرد عنكم قيظ الصيف ؟!!.."
ها هي مرات أخر !!.. تتقن جيدا كيف تلتقطني من شجون العرق وتحاصرني بعاصفة السخرية .. أشارت إلي أن تعالي ...
تبعت صوتها .. صعدت إليها والخوف يكتم غيظه كيف خالفت أبي حين أخذ علي العهد ألا أصغي لبيت فيه سلطة شمالية ؟؟!! استغاثات الهواء المتناثرة من شرفتها .. تلك من أيبست إرادتي ..
فتحت الباب .. أمرتني بالانتظار .. ألسنة البرودة تختصم على عقلي وقلبي وجسدي .. ارتعشت بقشعريرة لم آلفها وأنا أرسم الشتاء كل ليلة بقلمي المنكسر .. ثلج .. مطر .. شارع بلدتي الخالي ..مدفئة كبيرة في ساحة البلدة .. كل طقوس الشتاء حاضرة في لوحتي إلا الهواء البارد .. كان خط الأفق الذي لم ألمس !..( هل هذا هو الشتاء ) ؟!!
كعادتها وهي تلبسني الثوب راحت تتأوه من الحنين .. كنت أنتشي فخرا حين أشعر أني أسدي لها معروفا جزيلا وهي تتذكر رفات ابنتها بين طيات جسدي .. سالتها :
- أين هي ؟؟ ..
- في الشمال ..
- أكل الذاهبين إلى الشمال لا يعودون ؟؟ ..
هالة مسائية غمرتني بتأملاتها : نعم .. كأمك التي غيّبها الشمال !!..
- أمي ؟! وهل ذهبت أمي إلى الشمال ؟؟ ..
-ألم يخبرك والدك ؟؟ أصيبت أمك بمضاعفات بعد ولادتك ولما كانت بلدتنا الجنوبية تفتقر إلى أبسط أنواع الرعاية رحل بها والدك إلى الشمال حيث المستشفيات الكبيرة .. ولكن !!..
- ولكن ماذا ؟؟!!
- سخرية الشماليين من أهل الجنوب جعلتهم يتخذون من ألم أمك قنصا لتجاربهم الطبية !!..توفيت قبل أن تتمكن من العودة إلى البيت !!
حملت الفستان وفي قلبي حملت سر أبي ... و أمي !!
نصبت لوحتي الشتائية ... أرسلت عليها سحبا سوداء : ذاك هو الشتاء الشمالي !!
------------------------

 
انتهت سهرة الليلة على غير عادتها ، فقد كنت أنا محور النقاش فيها ... علمت بما استقرت عليه السهرة عندما أمرني والدي بكلمات معدودة أن أستكمل متاعي فأوراق الزواج قد اكتملت والزفاف سيكون الجمعة القادمة !!.. شيئ واحد جعلت أهذي به : أريد شتاء في الصيف !! .. تمالكت نفسي من هجوم نظراته المريبة ..
على المرأة الجنوبية أن تمتن للحياة لو منحتها ثقبا تتنفس فيه سعادة ما .. في الليلة الأخيرة من حياتي الماضية وفي الليلة الأولى لحياتي الجديدة كان علي أن أقنع بكوني عروسا في طابور كبير من العرائس تم انتقاؤهن كشارات نبل أغدقها المحسنون .. لم تكن ليلتي وحدي ففي الزفاف الجماعي الذي أقيم كنت بالكاد أرى عائلتي بين الجموع البشرية الهادرة من كل فج قريب حول بلدتنا .. تفرست وجه كل عروس علني أجد إجابة السؤال ..ولكن الأمنيات ظلت عطشى ..
حان وقت المنصة .. أوكلت مهمة قيادة الطابور الطويل إلى طفلة في العاشرة من عمرها .. ألبست ثوب زفاف تهدلت جوانبه على جسمها الغض ..نظراتها تراوغ المناسبة وهي تبحث عن صديقات اللعب ...منظرها أثار عاصفة الرفض في داخلي .. غافلت المنظمين واندفعت إليها كقدرها الذي تنتظره ..
- ما زلت صغيرة لماذا تتزوجين ؟؟
أجابتني بفرحة ثاوية : " أريد شتاء في الصيف !!؟؟.."
في محفل الرجال أخذت الأسماء تتلى .. يتقدم كل عريس ليتسلم هدية زفافه .. سمعت اسم زوجي .. اعتلى منصة الحفل .. مد يده .. تناول من اليد الأخرى ظرفا يحوي مبلغا من المال .. ولكن !!!
اليد الأخرى .. إنها شمالية !!
انتباهات الماضي تداعت إلى روعي : الشمال لا يأتي بخير .. البعبع الشمالي ... الأسير في الشمال .. ابنة الجارة التي ابتلعها الشمال .. أمي ..هناك في الشمال !!
هربت من الحفل .. ركضت بعيدا .. بعيدا جدا .. دموعي تشق جدار الصمت .. فؤادي يرتجف من تكسر الأمل .. كل داخلي يتفجر.. يتفجر بعنف ..
وجدته هناك كما كان دوما هناك .. منكبا على خوفه في ظلمة البهو .. أزيز بكائه يتيه في البيت حزنا .. ضعف الدهر يجلد نبرات صوته ..
ركعت عند قدميه .. أقلعت يديه بعيدا .. عانقت أنفاسه الحارة ..انتشيت بدفئه الكبير ... همست في دهشة عينيه :

" أبي .. بيت الطين لا يُبنى في الشمال ..!!"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )