تغريبة أفغانية ( نصوص نثرية )

تَغْرِيبَةٌ أَفْغَانِيَّةٌ

(1)


لَمْ يَبْقَ لَكَ فِي الَْقْلبِ إِلَّا صَبَابَةُ هَوىً قَانِطٌ يَتَعَاوَرُهُ نَوْحُ الثُّكَالَى وَيَتَقَاذَفُهُ هَذْرُ الثُّمَالَى ! وَفُتَاتُ ذِكْرَى تَسِيلُ الْأَزْمِنَةُ مِنْهَا كَمَا يَخِيطُ الْمَاءُ انْبِعَاثَهُ فِي الْمَزَادَةِ فَيَتَشَفَّقُ الظَّامِئُ لَهْثَهُ ، وَيَتَعَجَّلُ الْقَانِطُ قُرْبَانَ بَرَكَتِهِ ...

هَلْ أَنْتَ فِي عِدَادِ الْأَمْوَاتِ لَأَطْوِي الْعَزَاءَ فِي مَأْتَمِكَ الصَّيْفَ ، أَوْ أُوهِنُ الرَّجَاءِ فِي عَوْدَتِكَ الشِّتَاءَ !! فَإِنْ كُنْتَ مِنَ الْمَوْتِ ضَيْفًا ، فِإِنَّ أَقْوَى الْمَوْتِ مَا خَلَّفَ الذِّكْرَى ، وَآلَمُ الذِّكْرَى مَا تَوَّجَهُ الْحُبُّ !!

كُنْتُ كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا يُبْصِرُ غَيْرَ عَيْنَيْ أُمِّهِ ، فَرُحْتُ وَقَدْ خَتَمْتُ عَلَى فُؤَادِيَ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ إِلَّاكَ ، وَحَجَبْتُ طَرْفِي أَنْ يَتِيهَ فِيهِ سِوَاكَ ..

وَكَالسَّمَاءِ فِي سِتْرِهَا كُلَّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ كَانَ قَلْبِي يَنْفَسِحُ لِيَحْتَضِنَ تَنَسُّكَكَ حِيْنًا وَمُجُونِكَ أَحْيَانًا ، إِقْبَالَكَ تَارَّةً وَإِدْبَارَكَ تَارَّاتٍ ...

وَ مُنْذُ أَرَادَتِ الْبَشَرِيَّةُ أَنْ تُخَلِّدَ حَضَارَتَهَا نَقَشَتْ جُدْرَانَ الْمَعَابِدِ حَيْثُ الْإِلَهُ فِي أَطْهَرِ أَقْدَاسِهِ، وَالْبَقَاءُ فِي أَبْهَى تَجَلِّيَاتِهِ ، وَنَقَشْتُ أَنَا خُلُودَكَ فِي قَلْبِي حَيْثُ الْحُبُّ فِي أَشْجَى تَوَسُّلَاتِهِ، وَالْوَفَاءُ فِي أَصْفَى رَوَحَاتِهِ ، وَمَا بَيْنَ طُهْرِ الْمَكَانِ وَ رَفِيفِ الشَّكْوَى كُنْتَ تَلْهُو بِحَشَايَ وُهُوَ عَلَى جَمْرٍ يَتَذَكَّى ، وَتَلْغُو بِبَوْحِي وَهُوَ عَلَى سَمْعِ الدُّهُورِ يُتْلَى ...

أَجِدُنِي الْيَوْمَ أَسْخَرُ مِنْكَ مِلْءَ الْحُبِّ الَّذِي أَهْرَقْتُهُ عَلَى قَدَمَيْكَ ، حِيْنَ كُنْتُ الزَّهْرَ الْأَبْيَضَ فِي الصَّخْرِ الصَّلْدِ ؛ أَحْيَا عَلَى أُمْنِيَةٍ مِنْ رِيَاحٍ تَهُبُّ مِنْ وِصَالِكَ الْمُوهُوم !

تَرَكْتَنِي فِي عِدَادِ النِّسَاءِ خَبْرَ امْرَأَةٍ ذَاتِ رَجُلٍ ، وَالْعَوِيلُ مَكْتُومٌ بَأَنِّي وَاحِدَةٌ مِنْ ذَاتِ رَجُلْ!! فَمَا أَدْرِي أَيَّ الرَّجُلَيْنِ أَرَدْتَ أَنْتَ أَنْ تَكُونَ وَأَيَّ النِّسَاءِ ظَنَنْتَ أَنِّي سَأُقَلِّدُ ؟؟ رَجُلُ امْرَأٍَةِ أَمِِ امْرَأَةُ رَجُلٍِ ??

لَمْ يُؤَرَّخْ لَنَا فِي تَدَاوُلِ الْأَيَّامِ وِرْدًا نَفُكُّ عِنْدَهُ مُعْضِلَ السُّؤَالِ أَوْ نَسْتَحْضِرْ عَلَيْهِ جَلِيلَ الْخِطَابِ ، كَنْتَ دَائِمًا غَائِبًا وَكُنْتُ دَوْمًا مُنْتَظِرَةً ، وَ كُلَّمَا دَعَوْتُكَ إِلَى مَأْدُبَةِ التَّنَادُبِ انْبَرَيْتَ رَبُّهَا الصَّارَُِم وَ حَاجِبُهَا الْمُتَصَرِّفُ ، فَأَنْطَفِئُ فِي أَحْلَامِي : لَأَيِّ الْمُجِيرِينَ أَسْتَجِيرُ وَبِأَيِّ الْمُغِيثِينَ أَسْتَغِيثُ ؟؟

مُرَاوَدَاتُ الِّلقَاءِ مَعَكَ صُورَةُ مَا يَجِدُ النَّاسِكُ فِي حَضْرَةِ الْعَاهِرِ !! خَوْفٌ وَاضْطِرَابٌ ، وَتَلَصٌّصٌ مِنَ الْأَبْوَابِ ، وَاسْتِرَاقٌ لِلْأَصْوَاتِ ! تَدْفَعُ الصَّبْوَةَ وَتَكْبَحُ الرَّغْبَةَ ، وَتَطْمَعُ فِي الْعَوْذِ كَطَمَعِ يُوسُفَ فِي سِجْنِ ذَاتِ عَزِيزٍ !

وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ كَانَ مُرِيدًا لِلْعِفَّةِ ، مُسْتَعْصِمًا بِالْبَرَاءَةِ ، وَأَنْتَ طَالِعُ نَجْمٍ فَرِيدٍ تَوَقَّفَ الْقَدَرُ وَهْنًا حِينَ أَدْرِجَ ذِكْرَهُ فِي الْحَيَاةِ عَهْدًا أَوَّلًا ، ثُمَّ أَقْحَمَهُ فِي الرُّجُولَةِ زَمَنًا ثَانِيًا .. وَتَرَكَ لِي مُهِمَّةَ مُدَارَسَةِ الْأَمْثِلَةِ لِأَعِيشَ الْأُحْدُوثَةَ الْقَائِمَةَ فِي مَصِيرِي ..)رَجُلٌ بِلَا قَلْبٍ ، لِزَوْجٍ بِلاْ حَيَاةٍ ...(

حَاوَلْتُ جَاهِدَةً أَنْ أَحْمِلُهُ عَلَى اكْتِرَاثِ وُجُودِي فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا : أَفْغَانِسْتَانَ دِيَارٌ يَزْأَرُ فِيهَا الْمَوْتُ ، إِذْ لاَ حَظَّ فِيهَا لِتَنَادُمِ الْعُشَّاقِ وَلاَ تَنَادُرِ الْأُنَّاسِ وَلاَ تَنَاجِي الْأَحِبَّاءِ ! فَانْظُرْ بِمَا حَكَمْتَ عَلَى كِلَيْنَا مِنْ حَمِّ الْقَضَاءِ !!

فَأَجَابَنِي بِمَا أَذَابَ الْأَمَلَ مِنْ عَقِيرَتِي وَ رَاكَمَ الرَّسِيسَ فِي رُوحِي :" قَلِيلُ أَلَمٍ يُنَبِّهْ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ فَرَحٍ يُحَيِّرْ !! "

فَعَرَفَتُ حِينَهَا أَنِّي بِالنِّسْبَةِ لَهُ نَاتِجُ قِسْمَةٍ لَمْ يَحْتَمِلْهَا الْعَدْلُ !!
وَعَالِهٌ وَلْهَى لَهَى عَنْهَا السَّعْدُ...

**********************
(2)

تََنَفَّسَ الْمَوْتُ فِي صَبَاحٍ أَفْغَانِيٍّ ، مَا كَانَ فِي الدُّنَى فَجْرًا يُضَاهِي تَمَرُّدَهُ وَيُحَاكِي خَنِينَهُ ، فَمَطَرُهُ الدَّمُ وَرِيحُهُ الْحُزْنُ ، وَبَقَايَا بَرَدِهِ الْمُتَقَاطِرُ عَلَى الوُجُوهِ نِهَايَاتُ الرُّوحِ وَهِيَ تَخْلَعُ عَنْهَا تَمِيمَةَ الْوُجُودِ ..

أَرْضٌ حُبْلَى مِنْ جِبَالِ تَنْهَشُ آَمَالَكَ الصَّغِيرَةَ فِي الدُّنْيَا الْقَرِيبَةِ ،وَ تَحْمِلُكَ عَلَى اسْتِرْوَاحِ رِيحِ الْجِنَانِ الْمُتَوَارِيَةِ خَلْفَهَا فِي خَفْرٍ وَهِيَ تُدَاعِبُ أَسْرَابَ الْمُسْتَأْسِدِينَ لِلشَّهَادَةِ كُلَّمَا غَدَا أَحَدُهُمْ أَوْ رَاحَ ... كَانَتْ (بَدْرًا) تَتَأَهَّبُ لِلزَّفافِ أُخْرَى وَأُخْرَى ، وَ (أُحُدًا) تَحْسِبُ زَفَرَاتِ مِيلَادٍ جَدِيدٍ قَدِيمٍ جَدِيدٍ !!

احْتِرَاقُ الْوَقْتِ فِي الْأَلَمِ وَزَغَارِيدِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ تَتَرَاسَلُ فِي مَوَاكِبِ التَّشْيِيعِ كَانَ كَفِيلاً أَنْ يُوهِلَ قَلْبِي عَنْ صُورَةِ الرَّجُلِ - أَيَّ رَجُلٍ- إِذْ أَدْرَكْتُ الْحَيَاةَ مِنْ مِرْقَابِ الْمَوْتِ وَأَصْغَيْتُ لَهَمْسِ الرُّوحِ مِنْ صُورِ الفِنَاءِ ، فَتَمَثَّـلَتْ فِي شَاخِصِي شَارِدَةٌ مِنْ دُرُوسِ الْمَلَإِ الْأَعْلَى : أَنَّ ثَمَّةَ حِكْمَةٍ هِيَ أَغْلَى مِنْ رَجُلٍ فِي قَلْبِ امْرَأَةٍ وَأَطْهَرُ مِنْ امْرَأَةٍ فِي عَقْلِ رَجُلٍ !!

وَمَا عَلَى الْبَسِيطَةِ الْأَفْغَانِيَّةِ حِينَهَا إِلَّا أُنْثَى تُوَارِي طِفْلاً خَدَّجَهُ الْمَوْتُ ، وَ أُخْرَى تَحِِيكُ ثَوْبَ الْحِدَادِ عَلَى خِلٍّ بَيَّتَ الرَّحِيلَ ...فَكُنْتُ بَيْنَهُمُ ظَاهِرَ الْأُنْثَى وَبَاطِنَ الْعَدَمِ أَحْيَا عَلَى قَلْبٍ مِنَ الطَّخَفِ!! إِذْ ذَاكَ لَاحَقَتْنِي أَفْغَانِيَّةٌ رَبِيعِيَّةٌ لَمَّا رَأَتْنِي خُلْوًا مِنْ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِِ أَخَذَتْ تَصْرُخُ فِي أَبْوَاقِِ الصَّمْتِ : أَيَّ امْرَأَةِ أَنْتِ بِأَرْضٍ لَا حَرَمَ فِيهَا لِقَلْبِ رَجُلْ !!

فَكُنْتُ كَمَا شَدَى رَائِدَ الصَّحَرَاءِ الَّتِي إِلَيْهَا أَحِنُّ وَ بِهَا أَجِنُّ : ضِلُّ بْنُ ضِلٍّ !!

الْآوِنَةُ الْأَفْغَانِيَّةُ زَمَنٌ يَؤُمُّهُ شُرُودُ الْمَاضِي ، وَ يَنْطَلِقُ مِنْهُ مَخَاضُ الْحَاضِرُ ، وَتَتَلاقَى فِي شُهُودِهِ تَطَلُّعَاتُ الدُّنْيَا وَ وُعُودُ الْآخِرَةِ . كُلُّ ذَلِكَ أَنْسَأَ مِنْ وَعْيِِيَ التَّفْكِيرِ فِي طُفُولَةٍ عَابِرَةٍ أَوْ بِنَاءَ التَّوَقُّعِ فِي شَيْخُوخَةٍ قَادِمَةٍ ، فَالْعُمُرُ صَفْقَةٌ قَدِ انْعَقَدَتْ وَالْأَيَّامُ بِضَاعَةً مُزْجَاةً إِلَى رِهَانٍ ..

تَفَيَّأْتُ تِيكَ الْبِلادِ بَأَرْجِهَا وَأَرِيجِهَا ، وَزَاحَمْتُ حَزْنَهَا وَسَهْلَهَا ، فَكَانَتْ لِي الْوَطَنُ حِينَ كَانَ الْوَطَنُ عَلَى أُهْبَةِ الْكُفْرِ بِهَوِيَّتِي وَتَشْرِيعِ الْحُكْمِ بِنَبْذِ وُجُودِي ! كُنَّا أُمَمَا تَتْرَى؛ نَجْهَلُ الْمَسَافَاتِ فِي اخْتِلافِ الأَلْوَانِ وَتَصَاقُبْ اللُّغَاتِ ، وَ َلكِنَّنَا نَطْوِي الْمَرَاحِلَ فِي اتَّحَادِ الْبَسَمَاتِ وَ تَزَاوُجِ الأُمْنِيَاتِ ..!!

تَصْرِيحِ الإِقاَمَةِ بَيْنَ ظَهْرَانِيَِ الْقَوْمِ: أَنْ تََلْبِسَ الْمَوْتَ شِعَارًا ، وَالشَّجَاعَةَ دِثَارًا ، وَالصَّفَاءَ سِتَارًا ، وَالتَّقْوَى سِيْمَاءً ، وَالْحَقِيَقةَ تِرْيَاقًا.

شَيْءٌ وَاحِدْ كَانَ يُذْهِلُ الْمُسْتَنِيخُ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ الفَتِيَّةِ مِنَ الْحُزْنِ ، وَالْمُعْتذِرَةِ عَنِ الْفَرَحِ ..؟؟ إِنَّهُ الْمِسْكُ الْمَائِجُ فٍي السُّكَاكِ ، وَالْمُنْعَتِقِ مِنْ عَذْبِ الرِّضَابِ ، فَأَنْتَ حِينَهَا تُخَفِّفْ الْوطْءَ مُضْطَرًا لِأَنَّ مَا تَحْتَ الأَدِيمِ ِ مِنْ جِنَانِ عَدْنٍ مُسِتَقَرًّا !! .

عَبَاءَاتِ الشُّهَدَاءِ تُرْسَلُ كَالتُّحَفِ السَّنِيَّةِ لِلأَهْلِ الْمُتَرَامِينَ فِي الْبِلادِ الْبَعِيدَةِ ، فَكُلُّ مَا خَارِجَ الْحُدُودِ سَرَابٌ وَعَدَّادٌ مُنْكَفِئٌ فِي لَوْثَةِ الزَّمَانِ .

آلَيْتُ إِلاَّ أَنْ أَضَعَ لِلضَّعْفِ حَدًّا ، وَلِلْفَرَاغِ شُغْلاً ، فَانْتَدَيْتُ رِدَاءَ الْقِتَالِ ، وَانْتَضَيْتُ سُيُوفَ الْمَعَارِكِ ، فَتَوَزَّعْتُ مَا بَيْنَ ضَحْوَةِ النَّهَارِ وَ سُرَى اللَّيْلِ أٌرَتِّقُُ جِرَاحَ الْجِهَادِ ، وَ أُرَوِّي أَجْسَادَ الْهَلاكِ ، حَتَّى اخْضَرَّ لِيَ مِنَ الهَمِّ فِكْرًا جَدِيدًا ، وَ هَبَطَ عَلَيَّ مِنَ الإِقْدَامِ قَلْبًا حَدِيًدا ، فَمَاعَادَتْ الأُنْثَى فِي دَاخِلِي إِلاَّ خِبَّا لِخَتْلِ الأَعْدَاءِ ، أَوْ رَوْحًا لِغَوْثِ الأَبْرِيَاءِ ...

ثُمَّ مَا لَبِثَتْ الْمِحْنَةُ حَتَى رََهَقَتْنِي بِعَلْقَمِهَا !! ..

مُضْمَرُ إِنْسَانٍ فِي مَعَاجِمِ الْبَشَرِ ، وَلَكِنُّهُ عَظِيمُ صَدًى فِي تَصَارِيِفِ الْقَدَرِ ! وُجُودٌ لَمْ يَسْرِقْ مِنَ الْمِيلاَدِ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ صَدِأَةٍ يُحْمَى عَلَيْهَا بلَظَى الْخَوْفِ حِينًا ، وَيُدَِقُّ وَهَنُهَا بفَأْسِ الْجُوعِ آَخَرَ ... ! كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَشْفَعْ لَهُ أَنْ تَنْدَلِقَ أَحْشَاءُهُ عَلَى أَكْفَافِ مَنْ يُنَاوُشُ الْمَوْتَ فِيهِ !! تَلَقَّفْتُهُ سِرَاعًا فَضَمَمْتُهُ إِلَى سَحْرِي ، فََانْطَلَقْتُ مِنْهُ زَفْرَةٌ َحَرَّى اسْتَجْمَعَتْ حَوْلَهَا حُزْنًا طَافَ بِِالزَّمَانِ فَحَشَدَ أَشُدَّهُ ، وَسَاحَ فِي الْمَكَانِ فَاسْتَطْرَقَ أَضْيَقَهُ، فَكَانَ يَفُورُ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ عَمًى ، كَمَا يَمُورُ فِي الْقَلْبِ سَمُرَةً وَعَضْبًا !! انْتَفَضَ الدَّمُ فِي وَجْهِي غُبَارًا كَمَثَلِ رِيحِ عَادٍ وَصَرْصَرِ ثَمُودَ !! فَمَا أَكْبَيْتُ مَعَهَا سِوَى شَاهِدَ فِرْعَوْنَ مَعَ مُؤْمِنِ مُوسَى !!

هَا قَدْ وَجَدْتُ ضَالَتِي آخِرَ الأَلَمِ وَ مُنْتَهَى َسْيرِ الشَّجَنِ : طِفْلٌ فِي زِيِّ حَيَاةٍ ، يُعَوِّضُ َرجُلاً فِي جِلْبَابِ مَوْتٍ !!

************************
( 3 )

فِي شَرِيعَةِ الْمُضْطَهَدِ يَتَقَهْقَرُ الْوَطَنُ ذِكْرَى غَابِرَةً ؛ يُوقِظُهَا الْإِحْسَاسُ بِأَرْضٍ يَجِدُ مَسَّهَا كُلَمَّا أَوْهَنَهُ جَبَرُوتُ المَسِيرِ وَلَذَعَتْهُ مَرَارَةُ التَّشَرُّدِ ، وَ آذَتْهُ هِجْرَةُ الْعَشِيرِ وَ رَحِيلُ الْحَبِيبِ !!

خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا مِنَ الشَّتَاتِ عَنْ أَرْضِ الْأَوْصَابِ جَعَلَتْ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةِ مَحِلَّاتِ تَجَلٍ لِوَحْيٍ عَكَفَ يَسْتَقْرِأُ أَسْفَارَ الْعُهُودَ الْقَدِيمَةِ، وَ يَسْتَنْطِقُ أَلْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ الْعَتِيقَةِ ، وَيُصَافِحُ وَصَايَا الْحَوَارِيِّينَ الْبَائِدَةِ ..

صَخَبُ الْمَدْفَعِ مَازَالَ حَاضِرًا يَنْهَرُ الْحَاضِرَ وَيُسَبِّحُ الْمَاضِي فِي تَلْبِيسِ الذَّاتِ ، وَ يَبَرُّ فِي يَمِينِ الْإِيْمَانِ ، هَلْ كَانَ الرَّحِيلُ إِلَى أَرْضِ الْمَوتِ غَوْثًا لِعَوَاتِقِ الْأَفْغَانِ ، أَمْ غَسْلًا لِنَوَاصِي الْأَثْفَالِ !!

َتَبًّا لِلْنَوَاصِي الْهَلْكَى!

صَفَقَاتُ التَّفْرِيطِ بِالْحَقِّ ، تُقَابِلُ عُقُودَ الشِّرَاءِ الْإِلَهِي ، فَالْكُلُّ حَاضِرٌ فِي إِنْسَانِ الْمُجَاهِدِ الْمَاثِلِ فِي سَوَاءِ السَّبِيلِ بَيْنَ عَصَا التِّرْحَالِ وَ مَهْمَةِ السِّوَاكِ !! وَبَيْنَ إِطْرَاقَةٍ نَحْوَ الْوَعْدِ وَارْتِخَاءَةٍ نَحْوَ الذِّلَّةِ ؛ تَمَزَقَتْ أَغْشِيَةَ الْخَدِيعَةِ وَ انْكَشَفَ سَرُّ الْخَبِيئَةِ !! فَلَقَدْ فَضَحَ صَمْتُ الْحَقِيقَةِ طُبُولِ الإِدِّعَاءِ !!

بَعْثُ الْعَقْلِ صَدَى تَحْرُّرِ الرُّوحِ ، وَبِقَدْرِ مَا تَبْكِي الرُّوحُ مِنْ الْوَحْشَةِ ، يَئِنُّ الْعَقْلُ مِنَ الشَّكِّ !! غَيْرَ أَنَّ لِلرُّوحِ تَعَلُّقٌ بِالْغَيْبِ وَلِلْعَقْلِ قُوَةٌ فِي بَطْشِ الشُّهُودِ !! وَ هَنُو مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَالْعَقْلِ فِِي خَلِيقَةِ الْإِنْسَانِ حِيلَةً وَعَجْزًا ...

انْتَكَسَ الشَّرَفُ عَارًا ، وَالشَّهَادَة جَرِيرَة ٌ، وَالْجِهَادُ شِنْشِنَةُ أَخْرَقُ ، وَ نَسَخَتْ ( رَاعِنَا ) ( انْظُرْنَا ) أُخْرَى ، لِأَنَّ أَهْلَ الرِّعَايَةِ هُمْ أَنْفُسَهُمْ أَهْلُ الرُّعُونَةِ !!

أَحْيَا وَأَعْسَرُ مَا قَاسَيْتُ نُكُوصُ ذَوِي الجَدِّ ، وَعَبَثُ أَهْلِ الرَّجَاءِ ، وَتَرَدُّدُ أُولِي النُّهَى ، وَجَلَدُ الْفَاجِرِ ، وَعَجْزُ الثِّقَةِ،وَتَحَدُّثُ الرُّوَبَيْضَةِ ، وَانْتِفَاخُ الرُّوَيْفِضَةِ !!

بِتُّ عَلَى لَهِيبِ مِنَ الرَّيْبِ يُنْحِلُ البَصِيرَةَ ذُهُولًا كَمَا يُضْنِى الْجَسَدَ نُضُوًا ، فَكَانَتْ عِزَّتِي فِي ذِلَّتِي ، وَتَرَعِي فِي تَرَحِي ، وَعَوْدَتِي مِنْ بَيْنَتِي ، وَ خُرُوجٍي مِنْ إِنْسَانِيَتِي !!

وَلَوْ حُمِّلَتْ صُمُّ الْجِبَالِ ، وَمَعَاقِدُ نَجْمِ السَّمَاءِ ، وَمَنَازِلَ قُمُرِالْأَفْلاكِ مَا بِنَا غَدَاةَ صَارَ الْغَدْرُ قَاعِدَةً ، وَالْخَوْفُ شَرِيعَةً ، وَالنَّفْيَ وُجُودًا ، لَأَوْشَكَتْ أَنْ تَصَدَّعَ ، وَلَأُذْهِلَتْ عَنْ سَوْقِ الرَّحْمَةِ ، وَلَانْتَثَرَتْ عَنْ مَعَارِجِ الأُفُقِ !!

تَسِيلُ الْآَمَاقُ مِنَ الْأَدْمُعِ سُمُومًا ، وَتَضْطَرِمُ الآلاَمُ مِنَ الْجَوَانِبَ أَرَقًا ، وَيَقْوَى فِي ذَلِكَ الْوَجْدُ إِلَى الْحَقِّ كَمَا تَقْوَى النَّوَى أَبَدًا ، وَكَمَا يَفِيضُ الدَّاءُ بِالْجِسْمِ فَيَصِيرُ السُّقْمَ فِي سِرِّ كِتْمَانِهِ ..

أَرَانِي الْيَوْمَ مُتَحَرِّجًا مِنَ الْحَقِيقَةِ ، فَجَارٌ مِنَ الأَمَلِ ، قَنِيٌّ مِنَ النَّشِيجِ ، أَتَعَقَبُ مِنْ أَمْرِي أَطْوَارًا : هَلْ كَانَ الْأَجْدَرُ بِي أَنْ أَظَلَّ الْأُنْثَى الأَسِيرَةِ أتَرْتَقِبُ لَمَعَانَ شِهَابٍ مِنْ أَصَيلٍ !!

أَمْ أحَاكِي الثُّلَّةَ الْأُولَى فَأَتَحَرَّقُ رِيحَ جِنَانٍ مِنْ بَعِيدٍ !!

َكمْ أَتَحَسَّرُ لِلْعَيْشَ غُصَّةً ، وَأُجَلِّلُ لِلرَّجَاءِ نَجْوَى ، لِأَنْ يَكُونَ الْعُمُرُ قَدْ طُوِيَ قَبْلَ فَنَاءِ الآوِنَةِ وَ سَبْقَ عَودَةِ الْوَامِقَةِ !!

*************

وَأَخِيرًا ..

هَاهَوَ السِّفْرُ الْمَوْعُودُ الْيَتِيمُ مِنْهُ يَتَمَخَّضُ بَيْنَ يَدَيَّ بِعِبَارَاتٍ مُتَعَثِّرَةً !!

تَفَاءَلْتُ الْأُمْنِيَةَ رِتْقًا أَنْ يَكُونَ الشَّوْقُ قَدْ أَرْجَعَهُ ، وَالْغَرَامُ قَدْ أَزْعَجَهُ ... فَيَجْعَلُ لِلرَّحِيلِ تَوَقُّفًا ، وَلِلْهَجْرِ وَصْلاً !!

فَإذَا بِهِ سَلامٌ لِلْودَاعِ ، وَلِقَاءٌ مِن السَّرَابِ !

" انْتَظَرْتِ طَوِيلاً وَسَأَعُودُ يَوْمًا مَا " !!!

طَوَيْتُ الْكِتَابَ فِي نَافِثَةِ النَّارِ لِأُعْلِنَ انْقِضَاء آخِرَ شَارِدَةٍ مِنْ تَعَلُّقٍ تَتَرَدَّدُ فِي ذَاكِرَتِي لَكَ ، فَمَا عُدْتَ حِينَهَا أَجْمَعَ حَيَاتِي ، وَمَا فَتِئْتَ الْيَوْمَ إِلاَّ بَعْضَ آلاَمِي ، فَفِي الْحَيَاةِ حِكْمَةٌ هِيَ أَغْلَى مِنْ رَجُلٍ فِي قَلْبِ امْرَأَةٍ وَأَطْهَرُ مِنْ امْرَأَةٍ فِي عَقْلِ رَجُلٍ !!

إِنَّهُ صِدْقُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ..

************

انتهى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )