نسينا أم أُنسينا ..بل نُسّينا !

رمضانيات ( 9 )

: طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)

النسيان نعمة كبرى من الله تعالى جعلها ملاذ روح الإنسان يتداوى بها من المواقف الكئيبة التي تمر في حياته فتحفر في عزيمته وَهَنا لا ينهض بعدها إلى جادة الصواب والأمل إلا على ضعف وكره ،ولولا النسيان لما رفع مذنب رأسه إلى السماء ،ولا رفع القلم عن الساهي رحمة به  ،ولا أصبح للأيام لونا غير لون المأساة القاتم .وكما أن النسيان هبة ومنحة فإنه قد يكون كذلك دليل نقمة ومحق ؛وذلك حين يتعمده الإنسان ويمتلكه مهارة يضعها في غير موضعها ،ويستعين بها شبهة كاذبة في دفع حجة قائمة .وهذا النوع من النسيان هو ذنب بحد ذاته ،ومع أن النسيان يرفع الإثم عن صاحبه في منطق الشرع والعقل ،غير أن النسيان المقصود يودي صاحبه وادي الغفلة والبعد عن الله .ذلك أن هذا النسيان الآثم ينسج على بصيرة الإنسان غشاوة قاتمة فلا تفرق بين الحق والباطل ،ويؤجج الهوى فيطيش بصاحبه ردهات الضلالة ،ويعود مآل صاحبه العمى في الدنيا والآخرة ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) .
لقد لفت نظر العلماء أن مادة الذكر والنسيان وردت في سورة (طه) في عشرة مواضع .*
  1. قوله تعالى : " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى .. إلا تذكر لمن يخشى " فالوحي تذكرة وتبصرة ، ومحو للغفلة والذهول 
  2. " إنني أنا الله لا إلا إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " 
  3. ويقول موسى بعد ما طلب هارون شريكا له في اعباء الرسالة " وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ، إنك كنت بنا بصيرا "
  4. ويقول الله لموسى بعدئذ ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري )
  5. ثم يجعل الغاية من الإرسال أن يفيق فرعون من غشيته ويتوب إلى ربه " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " 
  6. ويصف موسى علم الله بالكائنات في الأزل والأبد " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى "
  7. والطريف أن السامري يصف العجل الذي صنعه ، ويقول معه المخدوعون به " هذا إلهكم وإله موسى فنسي " 
  8. وفي التعقيب على قصة موسى مع قومه يقول الله لنبيه " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا " 
  9. ويقول الله تعالى في صفة القرآن الكريم وسر نزوله " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " 
  10. ثم يقول في إخراج آدم من الجنة بعدما كان مكرما فيها " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " 
ثم يجيء الإنذار العام للإفراد والجماعات " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى "
إن الإنسان يكاد يخرج بدرسه الوحيد في هذه الحياة كلما توغل في منعطفات صنع القدر فيها ،بأن كل فعله في الدنيا هو التذكر ونبذ الغفلة ،هو أن يكون على ذكر من عهده الأول في صلب أبيه آدم عليه السلام ،وكل ما يأتي عليه بعد ذلك من تقلبات هذه الدنيا فإنما هو تذكير واختبار لتذكره لذلك العهد .
------------------
*محمد الغزالي ،نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم ،دار الشروق :تفسير سورة طه

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )