فيماذا نتحدث / النسيان



كتبت في مشاركة سابقة بعنوان  العلاقات الاجتماعية تبدأ من أنا : حوار الحب، عن أهمية وجود الحوار بين الأطراف المندمجة في العلاقة الواحدة، ووضعت أمثلة لبعض المسارات التي قد تشغلها الحوارات الجميلة والمجدية في حياة العلاقة. ونظرا لأهمية "الحوار/ الحديث" في البرهنة على حماسة الأطراف في البقاء ضمن العلاقة الواحدة ، نتابع  في سلسلة من المقالات القصيرة أفكارًا للحوارات تناسب أنواع العلاقات ذات الأمد الطويل؛ وليس العابر أو الوظيفي. وفي كل مرة سنلتقي مع الحوار من وجهة نظر جديدة نُبرِق إليها هنا إشارة؛ مستبقين لمخيلة كل طرف في العلاقة فرصتها في ابتكار المزيد والمبدَع.

الحوار من وجهة نظر / النسيان

النسيان الذي نقصده هنا هو  ما كان بقصد الحفاظ على العلاقة لتظل في أحسن حالاتها. إنه النسيان ذو المسعى الإيجابي لا السلبي . وحين "نتحدث لننسى"؛ معناه أننا قد قررنا مسبقا الغاية التي سينتهي إليه الحوار، ورسمنا المسار الذي سنلتزمه مدركين العراقيل التي تعترضنا، كما أن كلمة "النسيان" المتفق عليها مسبقا، ستتكفل بالإعداد النفسي والفكري مما سنتهيَّأ عليه كي لا يتحول الحديث من نسيان "الشيء" بهدف الحفاظ على الطرف الآخر، إلى نسيان "الطرف الآخر" وتدمير العلاقة برمتها.

مجالات نحتاج لأن نتحدث عن نسيانها كي تنجح علاقاتنا


الصعوبات مراحل كؤود نتناولها بالحديث كي نستخرج الدروس المستفادة لما هو قادم. إن أي عقبة نخوض غمارها في حياتنا المشتركة؛ تترك جزءا من ظلالها على شعورنا وأفكارنا حتى بعد انقضائها، ولعل هذه الترسبات التي ستتحجر بفعل الزمن؛ تطرق علينا منبه الذاكرة فلا تسمح لنا بتجاوزها، ثم وتدريجيا، نجد أننا في مواجهة مع تبعاتها التي ظننا أننا تركناها تموت وحدها ، ولكنها نمتْ وحدها وبكفاءة.
وللحفاظ على العلاقة مستدامة: فإن الصعوبات المشتركة، تتطلب جهدا مشتركا، ونجاحا مشتركا، ونسيانا مشتركا كذلك.

سوء الفهم ونشوب الصدامات واقع طبيعي في العلاقات الإنسانية من أي رتبة، خاصة تلك التي من أقدارها أن تستمر معنا طويلا. ولا يكفي في التغلب على المشاكل العارضة أن نطبق قاعدة "اتركها لتمضي!" لأن المشكلات قد لا تكون دوما ضعيفة كي تتلاشى من نفسها. ولعل أبرز ما نحتاجه بعد الهدوء والسكون من موجة الانفعال الآني، هو أن نجلس لنتحدث كي ننسى سيئات ما مررنا به، لا بفتح الآلام المغلقة؛ وإنما بتدارك الأسباب التي أوصلتنا لمرحلة الخطر كي نتفادها في الخطوات القادمة. والحوار هنا يأتي مطعَّمًا بالاعتذار والتواضع والاعتراف الصريح. وحينها نكون قد حققنا التجاوز السليم لتبعات سوء الفهم.

لا ننكر أننا نخطئ، ولكن حين يكون الخطأ في حق الطرف الآخر، يلزمنا أن نتوقف! فصلاح النية لا يكفي وحده لاستحقاق الغفران. الأخطاء في حق بعضنا تتحول لذكريات سوداء تدمر أجمل اللحظات المتوقعة. إن الكلمة المؤلمة، والتعليق الساخر، وإساءة المعاملة تحت ظرف معين، وعدم تقديم للعون للطرف الآخر حين كان يحتاجها، والتصرف بلا مبالاة فيما يتعلق بمدخراته أو وقته أو ما يتحمله من مسؤوليات؛ سلوكيات مسيئة ما تلبث أن تترسخ بزوايا حادة لتجعل علاقاتنا كريشة في مهب الريح، أقل نسمة تقتلعها وتلقي بها إلى حيث لا تعود. ونحن نتحاور فيما أخطأنا في حق بعضنا على شرط الغفران والسماح والعفو، لأن استعادة الماضي أشد ألما على النفس، ومنح الغفران رغم الألم هو ضرب من المستحيل لا تطيقه سوى النفوس المحِبَّة التي تود أن تحافظ على الحب فيما بينها.

مثال 2: نتحدث كي ننسى

لقد خضنا معا حياة واحدة، كنتَ فيها أولا تارة، وأنا الأولى تارة أخرى. وكما كنا حريصين على أن نتوزع واجباتنا ومسؤولياتنا وفق ما نشغله من موقع في حيز هذه الحياة الواحدة، فإننا اليوم ، وعلى ذات الأهمية، بحاجة  إلى أن نتقاسم أدوارنا في أن ننسى كل ما من شأنه أن يُعمِّق الشروخ أو يحفرها بين قلوبنا.
الأوقات التي فشلنا فيها سويا، كان لها حيثياتها وقصصها الخاصة بكل منها، دعنا نستعيدها لنستفيد منها، فكلانا يريد للحياة بيننا أن تستمر على وجه أفضل وأفضل كل يوم. لا نريد أن نهرب من مواجهة أقدارنا، بل نريد أن نفهمها معا ونتفق على الأرضية التي منها ننطلق في استئناف برمجة أنفسنا ورؤانا لنتجاوز الريح التي ستهب باستمرار على حياتنا ، وبهذا نبقى سالمين معا.
إني أحيانا قد يعوزني الفهم لما تتخذه من قرارات، لربما أن لك نظرة بعيدة لم أبلغها بعد، ولكني أريدك أن تدرك ودون أدنى ريب؛ أني معك في ذات المنحى وإن اختلفت الطريقة التي يقفها كل واحد من الموقف نفسه.

 لقد مررت في ظرف كنت أرجو لو كنت فيه بجانبي ولكنك لم تتقدم! وقت ذاك شعرت أنك لا تريدني لهذا لم تدعمني حين احتجتك. لا أخفيك أن تجاهلك لحجم ما كنتُ أتكبده من معاناة قد فتح هوة بيننا أراها تتشكل أمام بصري كلَّ مرة أقع في مشكلة ثم يمنعني كبريائي أن أطلب مساعدتك، لأنك قد جرحت هذا الكبرياء في ذلك الموقف البعيد. إني أريد بحق أن أغفر لك، كما أريدك أن تغفر لي لأخطائي في حقك، فلقد فهمتني كما لم يفهمني أحد، وفهمتك كما لم تعتد أن يفهمك مخلوق غيري، وإني لأعول على أن فهمنا العميق لبعضنا سيغدو شفيعا لنتحلى بالعفو والصفح مع أنفسنا ومع أخطائنا في حق بعضنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )