روتين الكاتب والكتابة




روتين الكاتب والكتابة


من الكلمات التي غلفتها السلبيات في وعينا على مدار سنوات طويلة؛ كلمة "الروتين"! فالأجواء التي تستحضرها هذه الكلمة تدور في أفق الملل والكآبة والفشل والانحياز ضد التغيير وعدم القدرة على التجديد والاستسلام إلى الراهن والنكوص على  المواهب والتوقف عن الابتكار والنزوح نحو التقليد والجمود..إلخ وبتجميع كل ذلك يبدو لنا  الروتين بصورة الموظف الذي تحكمه ساعات العمل وهو يحمل بيده ختما قديما يمرره بطريقة آلية على كل ورقة أمامه دون حتى أن يكلف نفسه عناء التأكد من موقع الختم بصورة سليمة، أوأن يقرأ ما تحويه الورقة من مضمون، ولو كانت ورقة الاستغناء عن خدماته!
هذا التضاد بين روح الروتين وروح الإبداع، كان من تبعات ما بلورته الثورة الصناعية من أجواء التقيد المثقل بالمتطلبات المنمذجة مسبقا وفق مصلحة العمل على حساب إتاحة الوقت لتطوير المجهود الفردي أو الأفكار المبتكرة، فصار احتساب ساعات العمل مقدمًا على قياس الإنتاجية، فالمهم هو أن يستم "الروتين" بوتيرته الدقيقة واليائسة معا.
ولأن الكلمات بنات الأفكار، فإن فكرتنا عن الشيء هي ما تبني لغتنا فيه، فما من مطلق بين الاسم والمسمَّى ، ولا بين الدال والمدلول، ولا بين الفكرة والكلمة المعبر بها ، هذا ما يجب أن ندركه ونحن نشرع في غربلة المتوارث من النماذج المستقرة التي تحتاج للتجديد مع حيوية حياتنا المعاصرة.

وبهذا فإن فكرتنا عن الروتين ستقوم على معاكسة فكرة الروتين عن نفسه! نعم، الروتين الذي سنتحدث عنه سيكون هو العامل المساعد الذي ندخله على حسابات الإبداع والابتكار لنستطيع أن نمسك بالشعلة، شعلة الشغف لكيلا تخبو.
الروتين في حياة الكاتب، ولربما في حياة أي مهنة، هو شكل من أشكال التهيئة يشمل أول ما يتناول عادات الكاتب اليومية، والتي تؤثر على حضور قريحته لإعداد التجارب الفكرية والعاطفية مما يصير بدوره؛ وقود كتابته المتفردة وقاموس مفرداته الأصيلة. في أي ساعة يبدأ الكاتب يومه الكتابي؟ كم المدة التي يمكث بها لإنجاز وظيفته الكتابية اليومية؟ ما حجم ما يكتبه كل يوم، وما أثر ذلك في إنجاز الإطار الزمني للعمل الذي يشتغل عليه إن كان رواية أو كتاب شعر أو سيرة ذاتية؟ هل ثمة استعدادات تتعلق بالناحية الجسدية، كممارسة رياضات محددة ، أو أن بعض السلوكيات المتعلقة بتناول الطعام والنوم والحياة الاجتماعية ؛ لها طقوس خاصة تؤثر على حيوية الكاتب؟ ثم هل هناك نموذج موحد يُجمِع عليه كل الكتًّاب الناجحين حيث يتبعه الكاتب المبتدئ ليصل به إلى مستويات أعلى من الاحتراف في مهنة الكتابة ؟

الإجابة على هذه التساؤلات هو ما تأتي به كلمة "الروتين"، روتين الكاتب في كتابته: هي عاداته، وسلوكياته، ومعيشته، وحدوده، وقواعده، وواجباته؛ تجاه نفسه ومهنته ككاتب، وهي نماذج قابلة للمحاكاة من جهة، ثم البناء عليها بما تتطلبه خصوصية كل كاتب في نفسه.


نماذج الروتين في حياة أشهر الكتَّاب

 تابع العرض في مقدمة الموضوع 


مرتكزات لبناء الروتين في حياة الكاتب


·         الكتابة هي وظيفة، لها ما للوظائف من انضباطية! تحديد الزمن عامل مهم في الكتابة، وأهم محددات الزمن هو "وقت البدء". متى تبدأ يومك الكتابي؟ منبه الوقت أو ساعة الضبط؛ هو رنين نفسي يحمل طابع الالتزام. كل الكتاب الذين نجحوا في مسيرتهم وخلدوا أعمالا عظيمة كان لديهم التزام في أن يبدأوا الكتابة مبكرا جدا، حتى قبل شروق الشمس، ذلك أن الهدوء والسكينة في ساعات ما قبل الفجر توافق قوى العقل في ذروتها، كما أن العزلة عن ضجيج العالم الخارجي وما قد يتراكم من متطلبات تتراكم مع ساعات اليوم ؛ إنما يكون في أفضل صوره قبل بزوغ أول خيوط النور.
"إني أنهض من نومي، وأتمتع بحمام منعش، ثم أرتدي ملابسي ، فأنا أثبت لنفسي أني متجه إلى الوظيفة.. الكتابة هي وظيفتي" رايان هوليدي.

·         التكرار يعلّم الكاتب الكثير! أن يتخذ الكاتب لنفسه بعض القواعد ليكررها بصورة ثابتة، خاصة خلال عمله على مشروع ما، يشكل أشبه بالمحفز للقريحة لأن تستعد كلما وجدت نفسها داخل هذه القواعد. الإصرار الذي يستنسخه التكرار يحررنا من عقدة الكتابة وفق الإلهام! فالكاتب مطلوب منه أن يكتب حتى عندما لا يجد كلمة يطبعها على الصفحة. لا يوجد نصيحة في حال تعذر الكتابة غير الكتابة أكثر. هذه من مفارقات الكتابة، ولكن ماذا يصنع الكاتب شيئا آخر لو لم يكتب ويسلِّم مسودة عمله لنفسه قبل جهة النشر. إنه كاتب لأنه يكتب، وكاتب لأنه مهموم بكتابته، وكاتب لأنه لا يستطيع فعل شيء غير أن يكتب ويكتب ويكتب.

"الجلوس على المقعد ذاته، وأمامك مجموعة مرتبة من الأوراق، بالمواظبة نفسها كل يوم، هذه التراكمية توجه رسالة للعقل مفادها: أنك على وشك الدخول في الحلم! وإن هذا لا يختلف عن روتين النوم" ستيفين كينج

·         قطع الشواغل وكشف قناع الإلهاء! في عالمنا المعاصر صارت الملهيات أو أسباب قطع التركيز أقوى من أن نستطيع التعامل معها. إن الدفق التقني عبر الهواتف النقالة، ورسائل البريد الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي، والسرعة المفروضة في التواصل والتفاعل والتي أصبحت قيمة مضافة لعالم السوق وأفكار الناس، تسببت في مرض عصري سريع الانتشار والعدوى يسمى"الإلهاء"! وقد باتت الشركات تحذر موظفيها من عقوباتٍ محتملة جراء الإلهاء عن أداء أعمالهم. وفي حياة الكاتب الذي يعتمد على لمعة هي أسرع من لمعة البرق في حضور فكرته، يشكل الإلهاء وما يدور تحته من شواغل عامل تدمير مؤكد لا مجال لتعويض أضراره إلا عبر قطع مسبباته من جذورها. اكتب بعيدا عن جهاز التلفاز، اكتب وقد أقفلت خدمة واي فاي من هاتفك فلا تسمع نبرات واتس آب أو غيره من البرامج سريعة التواصل، اكتب وقد فصلت خدمة الإنترنت عن حاسوبك فيما لو لم تمتلك مقاومة شراهة التنقل عبر فيسبوك وإنستجرام وتويتر، وإذا كنت بحاجة لإجراء عمليات البحث على غوغل؛ فاكتب هدفك من البحث واحفظ ما تجده مساعدا لك ثم ارجع إلى العزلة عن فكرة أنك متصل عبر الحاسوب! "التوقف" و"الانقطاع" مهارات احتياطية تلزم الكاتب اليوم.

"أيا ما اعتدت القيام به فإن عليك التوقف عنه لحظة أن تجلس وتكتب! وبصدق فإنك لن تؤدي عملك كما ينبغي ما لم تغلق هاتفك النقال" ناثان انجلادر.

·         الإنقاذ السريع لما قد يتلاشى من مخيلتك! الإسعاف والطوارئ والدفاع المدني والإنقاذ السريع، مهمات صعبة وتتطلب تطورا عاليا في الأداء، فلحظة مفارقة الحياة أو ميلادها تعتمد، بعد الله ، على الأداء الأقصى لهذه الوظائف. ولو استوعب الكاتب أن وجوده يعتمد فعليا على ما يسعفه عقله من أفكار، فإنه سيتذوق قيمة الكتابة بمهارة الإنقاذ السريع..أي إنقاذ فكرته من الموت داخله. كل كاتب يحتفظ في جيبه أو حيث تصل يده سريعا؛ بمفكرة أو بطاقات يدون فيها بسرعة ما ينخطف في مخيلته: فكرة، تشبيه، صورة، شعور. وقد تبدو هذه المهمة سهلة بادئ التدريب، ولكن مع العديد من المرات التي يظهر فيها وكأن عقل الكاتب صار يعتمد بالكلية على ما يدونه؛ يصير الكسل والتشتت العدو الأول للهروب من فتح المفكرة والقلم والشروع في التدوين.

" اجمع كومة من البطاقات المفهرسة، اكتب على كل بطاقة سطرا واحدا من مشهد تعتقد أنه مناسب لقصتك، لا تقلق من عدم اكتمال الفكرة أو بعثرة البطاقات، فقط اكتب فورا وبأسرع ما يمكنك" ديفيد جيرولد

·         الصحة والعافية جسدا وعقلا وروحا! بدون تمام العافية لن نتمكن من إنجاز شيء في حياتنا، لا كتابة ولا غيرها. والمتطلبات التي تفرضها العافية مشتركة بين البشر كلهم: العناية بالغذاء والنظافة والنوم، شروط سلامة وشفاء كذلك. وفي حياة الكاتب يظهر المجهود الذي يأخذ مضمون الرياضة أشكالا عدة. فعلى المستوى الجسدي، تعتبر الرياضات كلها صديقة لصحة العقل: المشي والجري، تتواكبان وتدفق الأفكار، ولقد كان حكماء الصين يسيرون على أقدامهم المئات من الأميال كي يصلوا إلى الفكرة التي يبحثون عنها داخلهم. رياضات العقل مثل القراءة والتأمل، يبنيان تركيزا عاليا، ويوقظان مستويات أعمق من الوعي في تمحيص الأفعال بما فيها أعمال العقل أي الكتابة. وإنّ كلا منا يلزمه أن يرتبط روحيا بجهة يصدق بيقين أنها تمده بالتيار المسترسل من عواطف الطمأنينة والحب والسلام، هذا الاتصال العلوي بالله أولا ، ثم بوجود الحب عبر قصة نعايشها كل يوم، من شأنهما أن يذكيا التوافق المنشود بين الكلّ الكاتبة وهو متطلب من متطلبات الخلود للعمل الكتابي.

"التوأمة بين الركض والكتابة يحفظان للكاتب إدراكه العقلي مع دفعة من المشاعر الطيبة، حتى وإن كانت وهمية أو مؤقتة" جويس كارول أوتس.

هذه مرتكزات يمكن أن يبني عليها كل كاتب خطته في الروتين اليومي، ومهما تعددت الأطر المخترعة فإنها جميعها تهدف إلى الحفاظ على تلك الشعلة الفاتنة والمفتون بها في عقل الكاتب وروحه. إن الكاتب وظيفته الكتابة ، أي أن استحداث الأنماط المتعددة من الوجود المحتمل للحياة الإنسانية .  الكاتب، شاعرا أو روائيا أو قاصًّا ، هو خالق مُصغَّر على قدره، غيرُ مستغنٍ عن تهيئة الظروف التي يستوي فيها فعله التخليقيّ، وكلما احتاط للتمكين لنزعة الخلق داخله عبر التهيئة والمواظبة؛ فإن بقاءه في مجد الكتابة ذات الجلال والجمال سيدوم بتفرد وجدارة.

--------------------

موضوعات ذات صلة :


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )