صوتك الكتابي: "أنت وَ أيضا"!




ما ينبغي الاتفاق عليه


هدفك في الكتابة ليس أن تبيع كتابك! بل أن تجمع ولاء القراء الذين سيعودون مرارا وتكرارا لشراء كتبك ومتابعة كل ما تنطق به لأنهم وجدوا لديك شيئا لم يجدوه عند غيرك، وهذا الذي لا يوجد عند غيرك هو أنت..صوتك الكتابي!

حالات استجلاء الصوت الكتابي


راقب ما هي المجالات المختارة في الموضوعات التي تطرقها الفنون الإبداعية المختلفة، مثل: ما هي البرامج المفضلة لديك لمتابعتها على الوسائل الإعلامية، ما هي الموضوعات النقاشية التي تستمع بالدخول فيها أو الاستماع إلى مجرياتها، ما هي القراءات التي تشدك قبل غيرها، فلو أنك مثلا دخلت إلى المكتبة لمطالعة أو شراء الكتب؛ فما هي الفئات التي تستولي على اهتمامك أولا، أو الكتّاب الذين تسارع لاقتناء كتبهم لبلورة أولى جهودك في القراءة. إن هذه الأنشطة الذهنية الإبداعية تقدم لك انطباعا أوليًا عن الأفكار التي تدور في عقلك والتي هي وقودك في الكتابة ، وتمثل في الوقت ذاته الخطوة الأسرع لاستخراج صوتك الكتابي الخاص بك.
مارس الكثير من التدريبات الكتابية حين تكون تحت ضغط المشاعر المتضاربة. اكتب بالتفصيل عن كل ما يجعلك : تضحك، تغضب، تحزن ، أو يثير فيك الرغبة والحماسة والدافعية، أو على النقيض من ذلك، اكتب عما قد يسبب لك النفور والكسل والعجز! إن وصْفَ  مشاعرك الفردية هو نفسه الصوت الباطن لعقلك وقلبك والذي لا بد وأن يظهر لاحقا على أنه بصمتك الخاصة في الكتابة، أي صوتك الذي يترك صداه بذكاء لدى القراء.
تجاربك الخاصة تمثل نواة القصص التي لن يكتبها غيرك، هذه التجارب أنت انصهرت فيها بكُليَّتك لذلك فأنت أصدق لسان للتعبير عنها، وفي ملاحق هذا التعبير تكمن الدروس المستفادة، والرؤية الأصيلة للحياة والعالم، وتفسيرك الذاتي لهموم النسيج البشري الذي تنتمي إليه. لا تكن واعظا لمشاكل الآخرين، إذ حسبك أن تعمل على مكنزك المكنون في أرضك أنت.. وبيدك أنت.. ومعولك أنت.

ما المقصود بالصوت الكتابي؟ ولماذا لا تعيش سوى الكتابة التي نسمع فيها صوت كاتبها حتى لو كنا على بُعد سنوات من الماضي بيننا وبينه؟!

 الصوت الكتابي مستوى أعلى من الأسلوب، واختيار المفردات، وجِدَّة الموضوعات. إنه يشمل كل هذه المجهودات، ولكنه يفارقها في أنه أعمق منها، إن الصوت الكتابي ببساطة هو "نظرتك "أنت" للعالم من حولك!"، سَمِّها فلسفتك الخاصة في التصور والتحليل، سمها منطقك الذاتي في التعامل مع الأشياء والأحداث التي تتراكم كل يوم في محيطك، فالصوت الكتابي على الدوام هو الأصالة ولا شيء غيرها.
الصوت الداخلي إذا؛ هو كيف يقدم لنا هذا الكاتب العالم من خلال سطوره ، لأنه هكذا يرى الحياة والعالم. وهكذا يتصل مع إيقاع الحياة من حوله.
لذا لا نستطيع الحكم على الصوت الداخلي كما نحكم على الأسلوب والأخطاء في التعبير، الصوت الداخلي خارجٌ  عن التحكيم مع أنه أول ما يشدنا إلى قراءة نتاج الكاتب، وهو إشارة على ما يتكبد من تعب في  تنشيط مهنته الكتابية. إذ كيف يرى العالم ويتفاعل معه؛ هو شأنه وحريته الخاصة ، إنه أسلوب بصيرته في النظر إلى الأشياء، وهذه لا يملك أحد ان يعترض عليها، ولعلها الرؤية التي يقدمها كل كاتب يمر على هذا العالم ، وبقدر ما يحفر عميقا في رؤيته الخاصة ويمتلئ بفردانية صوته؛ فإنه يغدو كاتبا أصيلا ويأخذ من زمن الخلود أطول.




كيف تبني وجهة نظرك الأصيلة

إننا ، وقبل أن نكون كائنات عقول، فإننا كائنات أخلاقية بامتياز! المكوِّن الأخلاقي تركيبة فريدة في الذات الإنسانية ميزت فاعليتها في الشأن الكوني. قد نطلق عليها :الفطرة، الأخلاق، الباطن، الصبغة ، الطبع والطبيعة، إنه في الجوهر ذلك الميزان الخفي الذي منه ننطلق في قبول أو رفض ما يضعه أمامنا الخارج، سواء أكان هذا الخارج ؛ المجتمع، أم العالم والكون.. كل ما هو غير "نحن".
والنظرة الأصيلة التي نسعى إليها، هي عبارة عن المعيار الأخلاقي  الذي نفاضل به ما تلقيه الحياة في سبيلنا، ومن الأسس القوية لبناء التصور الذاتي، تحديد ما يلي:

أولا: أولوياتنا الكبرى : هل هي: العائلة، المال ، العمل ، الوقت، المجد
ثانيا: سُلَّم القِيَم: نرتبها حسب الأهم عندنا: الحب ، الشجاعة، التضحية، السلام. أو غيرها
ثالثا: معتقداتنا: أفكارنا حول قوانين الحياة:الغَيب وتأثيره في حياتنا، الربح والخسارة في اختياراتنا، الفقر والغنى كما نراهما..أو غيرها
هذه بعض المنطلقات ذات الإطار الأخلاقي التي تصلح لبناء نموذجنا الخاص في التصور، وعندما نمارس الفعل الكتابي فإننا في الحقيقة نكتب أفكارنا المحكومة مسبقا لهذه المعايير، حتى لو كنا نكتب في الفانتازيا، فالأخلاق حاضرة في كل الأمور بما فيها الخيال.

كيف تقرأ أصوات الآخرين حتى لو لم تسمعها

بناء الصوت الخاص لا تكفي فيه الكتابة الفردية على أهميتها، ولكن يلزمك أن تتعلم كيف تقرأ الصوت  الخاص لدى كل كاتب.
الصوت الداخلي يتحدد بأنك عندما تسمع اسم كاتب ما يحضر لديك "ثيمة" خاصة لأفكاره حتى لو لم تتذكر أسلوبه أو تحفظ شيئا من اقتباسات كتبه. مثلا هناك كاتب بمجرد أن يحضرك اسمه تعرف أنك ستغرق في المعطيات الحسيّة عبر كتاباته، هذا يعني أنه ينظر إلى العالم من خلال المحدود والعاجل، وكل ما يدور في محيطهما من التعاطي القريب مع الأشياء التفصيلية الصغيرة في الحياة، هذا هو صوته الداخلي.
وهناك كاتب عندما تتذكره تجد أنك تحلق في الافتراضات العلمية والاختراعات واللغة المموهة بالاحتمالات والأسلوب الخارج عن نطاق الأرض كلها، وغالبا ما يكون هذا الكاتب ليس فقط كاتبا علميا، بل حتى لو كتب كتبا عن التجربة الذاتية فإنه يبرز نقديا وموضوعيا وشفافا أكثر منه عاطفيا أو مؤطرا بضرورات أخلاقية.
وهناك كاتب تشعر أنه يجرك إلى التاريخ وتبعات الأيدولوجيا والماضي المسيطر على إدراكه، حتى لو كانت ألعاب طفولته فإنها تعني له الكثير ليكتب عنها، إنه نوستاليجيًا في تفكيره ويحمل غضبه على الحاضر ويشعر بصعوبة في قبول الخطأ الأزلي للإنسان في الأكل من الشجرة المحرمة، وهذا هو صوته الداخلي.

سنعرض لمقتطفين من كتابات مشاهير الكتاب، من السابقين والمعاصرين، وسنرى كيف أننا عبر سطور قليلة نتمكن من استجلاء الصوت الكتابي لكل واحد منهم.

أولا: فرجينيا وولف، وكتاب غرفة تخص المرء وحده


"خشونة الحاضر تبدو وقد أصبحت ملساء، والمرء يمشي بتؤدة خلال دروب الكليات العتيقة وبجوار جدرانها الشامخة. ويبدو الجسد وقد احتواه صندوق زجاجي سحري لا تصله الأصوات، ويتحرر الذهن من كل اتصال بالواقع ومفرداته، وأصبح حرًّا في تأمل أي فكرة تنسجم مع اللحظة"

يظهر لنا من هذا المقطع القصير من الكتاب، أن الكاتبة تلزم  فكرة الخروج من الظروف الضيقة إلى فضاءات تشعر أنها من حقها، والخروج هنا منصب على العقل والحق في تفجّر القريحة. وهذا ينسجم مع التجربة الذاتية التي عاشتها روجينيا وولف حيث تعرضت عدة مرات لانتكاسات في مزاجها الذهني انتهت بالمرض العقلي الذي أودى بها إلى الانتحار. ورغم العصرنة التي انضمت إليها الكاتبة في اتجاهات الحداثة الأدبية غير أنها كانت ، وعلى النقيض ، تعتقد أن البنايات العالية والازدحام الشديد في المدن الحديثة سيقودها إلى الفناء لا البقاء. لذا نرى أبطال قصص روجينيا من النساء كلهن يبحثن عن بناء الذات بقوة الذات، وتحديدا من خلال تمكين المرأة من حقها في الكتابة والتفكير، وحقها في أن يكون هناك جمهور يقرأ لها. إن المرأة تتخايل في فكرة رجينيا وولف على أنها الكائن المصفَّد بالأغلال والعوائق يوشك أن تختنق روحه ويضيع عبثا بين الأكوام البشرية التي تعبر العالم كل يوم.

 ثانيا: هاروكي موراكامي، رواية: كافكا على الشاطئ


" آنسة ساييكي! أسمع نفسي أقول. لم يكن في نيتي أن أناديها، ولكن تتملكني الفكرة وتتحول فجأة إلى كلمات. صوتي أقرب إلى الهمس، لكنها تسمعه، وينهار أحد جوانب المثلث. ربما كنت أتمنى في سِرِّي انهياره- لا أعرف.أنهض من السرير، وأتجه إلى النافذة وأنظر إلى السماء الليلة. وأفكر في الوقت الذي لا يمكن أن يُستعاد. أفكر في الأنهار، في المدّ والجزر والغابات والمطر والبرق والصخور والظلال. كل هذه الأشياء في داخلي."
لا يستطيع هاروكي موراكامي أن يسكن مكانا واحدا طوال سطور رواياته، إن اليابان صارت تضيق بأهلها، فالحداثة القوية لم تنجح في أن تمنع الفرد المقموع من أن يجد فسحته في الترحال على طول البلاد وعرضها في خارطة تأملية للطبيعة واختلاف القصص في كل محطة تخوضها الشخصيات في الرواية. إنه الكاتب الذي يريد من شخصياته أن تعيش مثله في "فكرتها" حتى لو كان ثمن هذا العيش يتمثل في العزلة عن المجتمع وتقاليده: فساعات النوم غير منضبطة، والتفرد في الأماكن البعيدة بما فيها الغابات مباح ومتاح، ورسم العوالم  التي لا تمت إلى الواقع بصلة ولكنها قادرة على ملء العالم الجواني لأناسها، تماما كما يملأ الصوت الداخلي عقل مؤلفها.

قرون استشعار التعب



استخدم عواطفك وحالاتك المزاجية لتتعرف متى وصلت إلى صوتك الكتابي. حين تصير منهكا بعد الكتابة، فهذا دلالة أنك تكتب نفسك بنفسك، فاضبط هذا المقياس كل مرة تود أن تصل إلى صوتك الخاص، وهو شيء شاق جدا حيث يتم الاستدلال على الألم بحصول الأمل . إنه ليس لكون الصوت الداخلي يتطلب المزيد من التمارين والبحوث، بل لأن ليس كل الناس يمتلكون طاقة التحمل للوصول إلى هذا الذي يسمى : النزيف على الورق، بما يشوب هذا النزيف من لون الدم المفزع، والألم المجهد، والرغبة الحيثة في التعافي، والشعور بالضعف والفراغ و أنه لا حول ولا قوة للكاتب.
هذا هو الجمال، والأصال، والفريد فيما لو تمكنت من استخراجه من الظلمة إلى النور.

تمرين بناء الصوت الكتابي: الاندفاع في الكتابة

اختر تجربة ماضية مررت بها وتحكمت بك حتى أحدثت بلبلة واضطرابا رافق مرحلة من حياتك. ثم اختصر هذه التجربة في ثلاث كلمات مفردة، رتب هذه الكلمات حسب الأقوى تأثيرا ثم الأضعف، ابدأ بإنشاء جملا متتابعة حول الكلمة الأولى، وعندما تشعر أنك قد انتهيت ، انتقل إلى الكلمة الثانية بشرط أن تربط ما كتبته بدلالات هذه المفردة الجديدة، وكرر نفس العملية مع الكلمة الثالثة. بهذا ستجد أنك قد أخرجت نصا محكما يقف على ركائز تأثيرية قوية من الأفكار والعواطف المركزة. ولكن تذكر أنه من المهم خلال الكتابة أن تعزم على كسر كل القيود المعتادة في حياتك: القيود الاجتماعية ، الأوهام الشخصية، الأفكار المسبقة، الآراء الخارجية، يجب إطفاء صوت كل ما يعمل على تقليص صوتك الداخلي خلال الكتابة، لأن الهدف من التدريب هو الشعور بقوة تدفق الصوت.
قد تساعدك كلمة "أيضًا" في الحفر عميقا داخلك، فعندما تنتهي من كتابة الجمل، ضع بجوارها كلمة "وأيضا"، ثم اكتب جملة أعمق منها، ثم أعد كتابة كلمة "وأيضا"، واكتب جملة أعمق، وهكذا كلما انتهيت من وصف ادخل إلى وصف جديد، وستندهش من قدرتك على لملمة الخيال بزوايا فريدة وأصيلة وخاصة بك.
احفر عميقا في عقلك، تمنح قلبك حريته، اترك الكلمات تتدفق ، امسح الحواجز والحدود .. ضع كلمة "وأيضا" بعد كل جملة تامة تنتهي منها

وختاما

في إطار ما تناولناه في هذه المقالة، نجد أن كل إنسان يحمل في داخله القدرة التامة على ممارسة الكتابة، لأن كل واحد منا له موقفه الخاص من الحياة. وهذا حقيقة ما نطمح إلى بلورته هنا، إن الكتابة ليست حكرا على مواهب خاصة، إنها قبل كل مجهود يبذل لتنميتها؛ هي في الأصل نشاطا عامًّا وَجد وَ يَجِد دوما إثراءً من قبل الإنسان الذي لم يتوقف عن مزاوته منذ استطاع أن يمسك الإزميل والقلم، وستسمر الكتابة هي الفعل الأولى بالعناية في عصر البصمة الإلكترونية.
ومن يريد أن يصبح كاتبا عظيما؛ يلزمه أن يطور صوته الكتابي الخاص جدا به، أي أن يحفر عميقا في ملاحظة الأشياء والأحداث في عالمه، ويمتلك الصبر والروية والشجاعة لتفنيد هذا العالم بحسب نظرته الأصيلة مما صاغتها أنموذجه الفلسفي والأخلاقي. إننا كقراء، نريد أن نرى العالم كما لم نره من قبل، ليس عبر اختراع كائنات أخرى أو عوالم خارقة، ولكن يكفي أن يحدِّثنا كل كاتب بصوته وبحَّته ولكنته، فالذاكرة تحمل خاصية تذكر الصوت بقدرة أعلى من خاصية تذكر الصورة أحيانا
--------------

إذا وجدت في المقالة ما هو مفيد وممتع، فلا تتردد في مشاركتها مع الآخرين، فالمشاركة هي روح الابتكار.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )