الكتابة عمل شاق وصعب، ولكنه ليس بالمستحيل

لماذا نتجه إلى الكتابة؟

في كل مرة نمسك القلم أو نستعين بلوحة المفاتيح لإفراغ ذلك المخزون الفكري و النفسي ؛ مما بلغ ذروته في وجداننا، يحدونا العظيم من الأمل بأن ما نكتبه سيؤول عملا خالدا لا يأكله الزمن ولا يُعرّج عليه النسيان. وبمجرد أن نكتب الكلمة الأخيرة ومع ذوبان الشغف، ثم عبر متابعة المزيد من الكتابات السطحية المنتشرة على شبكة الإنترنت، أو على الضد، عندما نتعود التطرف في النقد والتمسك بالمعيارية العالية في الكتابة؛ نجدنا نتراجع قسرا ونهبط تدهورا من علياء أحلامنا الكتابية، ويصبح ما كتبناه بلا قيمة.. من وجهة نظرنا!
أيا ما كان السبب وراء تثبيط الهمم في عالم الكتابة؛ فإنه من المهم أن يدرك كل مبتغٍ لدخول العالم الكتابي شرط البقاء في هذا العالم المشتبك مع ذاته، وهو: أن الكتابة عمل، ثم عمل، ثم عمل. وأنه عمل يتطلب المشقة الإضافية، لأن طبيعته الصعوبة المجانية
من يدّعي أنه يكتب بسهولة؛ فمن المؤكد أن كتابته لا قيمة لها. ومن يدّعي أنه يكتب بالإلهام وحده؛ فإنه سيكرر نفسه وسرعان ما تقتل السآمة سطوره وروحه. ومن يدّعي أن الكتابة هي الحرفة الوحيدة التي لا خسارة فيها، فإن عليه أن يراجع حساباته المادية والمعنوية لأن الكتابة ستصيبه بالكثير من النكسات والأزمات

اشتراطات تجعل الكتابة عملا صعبا

ثمة مبررات عدة تجعل من الكتابة جهدا مستنزفا للقوى والوقت، وإن كل ما يكتب حول الكتابة من كتب أو مقالات أو ما يتم عقده من دورات أو ورش عمل؛ إنما يهدف إلى مناقشة ما يحيط بالكتابة من أوهام أو حقائق يجعل منها عملا يدرج ضمن الأعمال الأكثر مشقة في تاريخ الأعمال الإنسانية على الأرض. ونطرح هنا ثلاث إشكاليات، غالبا ما أحاطت بالالتزام بالكتابة، وسببت انهزام الكاتب أمام موهبته

أولا: الاستمرارية

الكتابة نشاط يقوم على النشاط، بمعنى أن التراكمية التي تنشأ عن المواظبة في الأداء هي التي تحكم هوية الكاتب أولا وأخيرا. وشرط الاستمرارية هو ما يخلع عليه  إما احترافية الكتابة، أو يقصيه من عضوية مجتمع الكتّاب. إنه ليس من السهل دوما استدعاء الأفكار، كما أن "الهوس" الذي تفرضه الكتابة كونها تشاكسات شعورية ولا شعورية، لا يهدأ بأن نحمل معنا "مذكرة" نسجل فيها كل ما يخطر لنا من أفكار. ولعل فكرة المفكرة وغيرها من الدفاتر اليومية مهمة وسنقوم ببحثها لاحقا ، ولكن لا مفر من الاعتراف بأن التفرغ الناجع للكتابة يأتي عبر الجلوس أمام الورقة أو الحاسوب أو الآلة الكاتبة لإخراج شيء حقيقي. نبدأ في التأسيس عبر "كتابة" شيء ما، ثم البناء تصاعديا في "كتابة" شيء ما، ثم الوصول إلى الخاتمة اللائقة "بكتابة" شيء ما!
ما هو الدرس الأهم الذي تعلمته من أجل ممارسة الكتابة؟
 أن أبرهن على أني أكتب بأن أجلس أمام الحاسوب أو الآلة الطابعة. فإذا كنت صبورة كفاية فإن ثمة شيء سيأتي ولا بد، أستطيع أن أضرب رأسي بالجدار لأن لا شيء يحدث، ولكن بالاستمرار ثم الاستمرار فقط ، فإن شيئا ما سينبثق
-إليزابيل أليندي-
By Gabriel Packard | Published: June 24, 2014-The Writer Magazine 

 ثانيا: الكمال

النقد الذاتي الشديد الذي نوجه لأنفسنا بهدف واحد : وهو وصول ما نكتبه إلى الكمال! هو حقا من الظلم الفادح لهبة الكتابة داخلنا. الاكتمال يأتي عبر اللا-اكتمال، هذه فلسفة الفاعلية في الحياة كلها. إن الكمال شيء محمود ولكن علينا أن نعرف كيف نجعله يثري جهودنا بدل أن يكون المسطرة التي نقيس بها سيئاتنا. إننا نحب ان نؤدي أفعالنا بصورة كاملة، لأن الكمال حينها يحمل معنى الجودة والإبداع، ولكن هذا يحدث ونحن نؤدي العمل لا فارغين منه، أي خلال اللحظات الصعبة التي نبذلها فيها كل ما لدينا للوصول إلى أفضل مستوى نطمح إليه. الكمال هو السعي نحو الاكتمال، وليس الوقوف في الظلام ومراقبة النور وهو يشرق بعيدا عنا. 


ثالثا: المقارنة

لا يوجد كاتب نجح في مهنته عبر المقارنة بين عمله ونتاجات الكتّاب الآخرين، سواء أكان في أول مشواره أو بعد أن حصد أرفع المراكز الأدبية! هذه حقيقة، وكل من لا يستطيع التخلص من عقدة النقص في تعلمه للكتابة، أو يريد أن يعكف على مقارنة كل ما يكتب بكل ما قرأ ويقرأ، فإنه لا يملك "شخصية الكاتب المستقلة"، وبالتالي لن ينجح في أن يترك شيئا حقيقيا يمثله في تاريخ الكتابة. إن وجهة النظر القائمة على المقارنة من شأنها أن تكون القشة التي تقصم كل بصمة فريدة خاصة لدى الكتاب الناشئين. فعندما يقول لك أصدقاؤك ؛ أنك تشبه في كتاباتك نزار قباني، أو عندما ترسل مخطوطة روايتك لناقد أو دار نشر ويقدم لك تقريره قائلا:  أنه شعر عندما قرأ لك وكأنه يقرأ لتولستوي، فإن الحقيقة المرة وراء هذا المدح المقنع هو عبارة واحدة لا تحتمل التأويل: توقف عن الكتابة فورا! لأن العالم لا يقوم على تكرار النماذج، بل إنه ما يصنع العالم هي "الفردانية" غير التقليدية، إذ حتى لو كانت النسخة فائقة الجمال فهي في النهاية "نسخة" وليست عملا أصيلا!
الكاتب، وخاصة في بداية أمره، يجب أن يبحث عن النقد/ الرأي/ الإشادة / القراءة، التي تقول له : أنت تمتلك صوتك الخاص! اللغة الخاصة، الأسلوب الخاص، الخيال الخاص، الكيفية الخاصة في بناء التوليفة الكتابية الكلية، هي المكافأة الكبرى التي يطمح إليها الكاتب الصادق مع فنّه الكتابي

ولكنه ليس بالمستحيل

الكتابة ليست معادلة مستحيلة الحل! وكل ما يحتاجه الكاتب هو الوصول إلى الموازنات الناعمة ما بين الفكرة والشعور واللغة، أي أنه يحتاج أن يستبطن بعمق حسّه الباطن تجاه الحياة كقضية مشاهدة، وحق وجودي، ولحظة تأمل. وكل ما نفعله في الكتابة هو أن نشتغل على أنفسنا، وكلما زاد العمل قسوة، صار أكثر مهارة. إن الثمن الذي نقبضه من الكتابة ليس النشر، ولا تحقيق أعلى المبيعات ، أو زيادة عدد المتصفحين للكتاب أو الصفحة الإلكترنية، بل إن أول نجاح هو إنجاز النص بأكمله، بصرف النظر عن ما يتبع ذلك من النشر والتسويق، لأنه من المغالطات التي يجب أن يتنبه لها الكاتب ؛ أن ليس كل ما هو منشور فهو جيد! الجيد هو صاحب النَّفَس الأطول لأنه قد اكتسب عملا صعبا وشاقا، حتى أخرج كتابته أشبه بالمستحيل بذاته

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )