كتابة الأيام السبعة


     اليوم هو السابع في الأسبوع الأول من هذه المدونة الوليدة : هذا يعني أني قد وفيت بما قدره سبعة أيام تامة من الكتابة المتواصلة تحقيقا لعهد ( كل يوم كتابة !)، يغامرني شعور عظيم بالنصر أن استطعت أن ألجم الفتورفي يراعي ، و أعلي صوت الشجاعة في عزمي طيلة الأيام السبعة ، لابد أنها ستكون أيام سعد بالنسبة لما هو قادم !!
العجيب في الشك أنه  لايتردد ولا يتوانى عن الشرود بنا عما نعلم أنه يقين ،وكأنه يستل ثأر اسمه منا ،وإذا كانت المعاني كما قالت العرب منثورة متداولة وإنما الشأن كل الشأن في اللفظ الذي يلبسه المعنى ،لكنا في أمر مريج  حول قدرتنا على تأليف اسم متناه القصر ذكاء الوشوشة كالنفث الذي يحدثه  تفشي الشين وهمس الكاف المشددتين في كلمة ( الشّكّ).لقد كنت أشك في كل شيء يتعلق بهمّي الكتابي ،أشعر أني قد أوتيت قدرة ما على تدبيج الأفكار ولكن رهبة الموقف الكتابي من جهة ،والشعور الدائم بالمقارنة مع ذوي الأقلام من جهة ثانية ،كان يقتل إلحاح الأمنية فيعود كسير الحول والطول .هذا الشك لم يبرد شوقه غمار هذه الأيام السبعة ولكنه تمثل على صفة أخرى حافزا ضد عدم الكتابة وليس ضد الكتابة ذاتها ! وهذا من عجائب العقل الباطن أو ربما هو من تلوّن النفس البشرية ،فأنت قد ترتاب من الشيء أول مرة فيعود أحب خلق الله إليك ،وعلى العكس ،فإنك قد تندفع في غمار الإعجاب بما فيه الضرر عليك ،ولعل لشيء من هذا القصور البشري الذي يعجزنا عن فهم ذاتنا أحيانا ، قرر الحكيم الخبير هذه الحقيقة في كتابه الكريم ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )،لقد وردت هذه الآية في سياق الأمر القتال وهو مجهود بشري يستلزم التضحية وتحمل المشقة ،ولكن التجربة الإنسانية المترددة ذاتها سرعان ما تجني ثماره بما يتقرر من العدل في الحياة و الذي هو أغلى ما نصبو إليه .
لقد أفادني التزام كتابة الأيام السبعة في استكشاف عدة أمو ر:
-          أن الكتابة و الالتزام بها - والتي كانت دوما مشروعا مؤجلا بالنسبة لي تحت ضغوط الظروف والشواغل الأخرى -بدأت تتداعى شواردها على خاطري بإلحاح  وتأخذ لها موقعا في يومياتي ،وكأنها تجبرني هي من ذاتها على ذاتها .فبعد أول مداخلة ،ثم حمل النفس على المداخلة الثانية ، أخذت الأفكار تنثال على ذهني متلاطمة وكأنها تعيد ترتيب نفسها في ذهني بل لعلها تعيد ترتيب ذهني لتنشله من ركوده ،ليس معنى هذا أن الأمر كان سهلا ، بل إنه كان شدا وجذبا متواترا طوال هذه الأيام بين الرغبة في الصدق مع الذات وتحقيق حلم الكتابة اليومية من جهة ، والكسل والإنهاك الذي سرعان ما يتسرب فور شروع وسوسة الكتابة في قلمي من جهة أخرى.ولكن في النهاية كان النص يخرج فارغا وممتلئا في الوقت ذاته ،فارغا من ذاته وممتلئا بغيره ، وكنت أنا معه أتجدد نفسيا وأتكاثر فكريا .
-          أن تعيش حياة الكاتب أو أن تصير الكتابة حياة يومية لك لا يكلف أكثر من أن تجعل على مقربة منك ورقة وقلم حيثما كنت كي تسجل ما يلتقطه ذهنك من أفكار أو تفضي بما يجيش في داخلك من مشاعر ،هذا كل مافي الأمر ! إن الأمر عنك أنت وليس عن أحد آخر ، عن داخلك وليس عن غريب عنك ، عندما تتصور الكتابة بهذا الصورة ؛وهي أنها النصف الآخر الحميم الذي يلازمك في كل تموجاتك الفكرية والنفسية ويتقلب معك في حلو الحياة ومرها ، ويعيش بك وفيك معادلة الأمل والألم ،يصبح شغل الكتابة هو بمثابة تجديد الوجود الذي يأتيك مع أول نفس تسحبه من يومك الجديد ، بل ومن لحظتك المتولدة حديثا ،إن الكتابة شيء مستقر ثابت غير متحول مركب في أصل تكوينك ولا يكلفك إظهاره بذل الجهد كما قد يخيل إليك بعض المتبطرين بالكتابة ،بل إنه يحتاج منك أنت أن تتوقف عن محاولة عرقلة خروجه واندفاعه . إن خير ما تكتبه هو عندما تكون في وضع الاستسلام أمام جيش الإرادة الكتابية المندفع ، اتركه فقط فهو لن يهزمك لأن عجيبة هذا الجيش الرباني أنه ينتصر بك منك ويعود بحلاوة النصر عليك . فيالها من حياة سهلة ، حياة الكاتب ، المستسلم لقدر الكتابة فيه !! فقط ورقة وقلم... وراية بيضاء .
-          أن عشق الكتابة لا ينبغي أن يتوقف على قوة النص الذي تكتبه ، إننا كثيرا ما نقتل سطورنا في أرحامها قبل أن تعلن عن نفسها عندما نقيس كل سطر نكتبه بمصطلحات : العظمة والكبرياء والجنون أحيانا ! . إننا حتى نكتب لابد و أن نحب هذه الكتابة ،هذا الوليد الذي لا مناص من أن يمر بمراحل عديدة قبل أن تهيء له منصة الشرف في احتفالات التخرج . أيا ما كان اللون الكتابي الذي تكتب فيه :قصة قصيرة ، رواية ، كتابات فكرية ، كتابات نقدية اجتماعية ، بل حتى رسائل الدعاية والإعلان ، إن كل نشاط كتابي هو محترم بقدر مافيه من إبداع وبحسب حاجة المجتمع إليه ، وسيظل المجتمع البشري بحاجة لكل لون كتابي يظهر لأنه ما دام قد ظهر فمؤكد أن هناك من سيقرأه ، فلا مجال للأبوة الفكرية في هذا المجال ! ولكن التمحيص يكون بمقدار الجودة التي تحملها النصوص الكتابية .
-          لا أزعم أن الكتابة دوما ما تسير دون تعرجات ،فأنت عندما تعتزم احتراف الكتابة أي أن تسمح لهذا الدفق الذي بداخلك أن يعلن عن نفسه ويحمل اسمك ، فإنك حينها تدخل معه في علاقة "زوجية" روحية وعقلية ،وكأي تزاوج يسعى إلى التكامل ثم إلى الكمال ،يتعرض هذا الزواج إلى فتور واشتعال ،لأنه في النهاية علاقة تحكمها "الإنسانية" المتذبذبة فينا .ولكننا نستطيع في غمرات الفتور هذه أن نشحذ  طاقة الحب بيننا وبين سطورنا عندما نخاطب أنفسنا بعبارات الأمل والطموح :
×        فعندي وعندك دوما  شيئا نقوله للعالم من حولنا كي نجعله أكثر سلاما ومكانا أفضل للوجود الإنساني المكرم
×        إن حياتنا جميعا مهمة وكذلك ما نتركه من أوراق ووثائق وذكريات كلها ستغُير موقعنا وموقع كوكبنا الأرض حين تزداد وتزداد.
×        ما دامت الحياة حولنا في ضجيج فإننا نستطيع أن نستخلص من هذا الضجيج أفكارا لسطورنا وشخصيات لقصصنا وعناوين لكتاباتنا ،ولأن الضجيج لن ينتهي مادامت الحياة مقدرة على هذه الأرض ، فإن قدرتنا على الكتابة لن تنطفئ لأنها وحدها القادرة على تأجيج هذا الضجيج و تسجيله !.
فإذا عجزت عن إنشاء هذا الحوار الإيجابي مع ذاتك ،فارجع إلى العبارات التي خلفّها الآخرون وهم يصفون الكتابة ،وستجد فيها بغية ماتعة تجعلك أكثر توقيرا لانكسار قلمك كما كنت تحترمه مشتعلا !اجمع الكثير من هذه العبارات واجعلها على مقربة منك حين تباغتك الغفلة الإبداعية :

سقراط :الكاتب كالمحارب :كلاهما يدافع عن قضية واحدة ، والفيلسوف يقف موقف المتفرج الحكيم بين الاثنين المتحاربين : هذا بالكلمة وهذا بالسيف .
آلن سونذرز : الكتابة تصنع الرجلَ الرقيق
جبران : ليس من يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب
شكسبير : حٍبْر الكاتب كدم الشهيد
نعيمة : يا للعجب! أزرع قلبي على الورق ، فينبت في قلوب الناس
مجهول : الكاتب : عيون ترصد ، وقلب يخفق ، وعقل يتأمل
غوركي : للكاتب  الأصيل قلب مشتعل وعقل شامل
همنجواي : للكلمات الرقيقة صدى أرق
مجهول : أن تكتب يعني أن تقتحم العالم باللغة
جول دي جروف : الكتابة تصفّي كَدَر الأفكار
حقيقة أني أشعر بأني أمارس ذات الجرم حين أصر على تكرار كلمة ( نص ) في هذه المداخلة ،ولكني أقصد الناتج الكتابي أيا كان ، وليس بالضرورة أنه ذلك النص الفريد الذي لم يكتب من قبل ولن يكتبه أحد من بعد ، إذ جلّ ما أقصده أن الكتابة هي تحدٍ ،ولكنه " تحدي الإبداع " وهذا النوع من التحدي تُحتسب فيه كل الإنجازات كبيرةً ولو كانت كلمات متشاكسة أو حروفا تبحث عن كلمات ، المهم أن تظل شرارة هذا التحدي قائمة في نفس الكاتب وسيكون محظوظا على الدوام بسماع المزيد من البشارات من داخله حول ما يمكن أن يكتب عنه .

هل مارست مدة سبعة أيام متواصلة ؟ كيف وجدت هذه الرحلة الكتابية ؟وكيف تتغلب على هجمات البرودة والياس والكسل التي تعرض لك ككاتب أو كمشروع كاتب ؟ مؤكد أن تعليقاتك ستكون لها أهميتها في تبادل الخبرات والتجارب بيننا ... شكرا مقدما

العبارات من كتاب :موسوعة الأمثال والحكم و الأقوال العالمية : أكثر من عشرة آلاف مثل وحكمة وقول – جمع :منير عبود

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )