الكتابة من القلب


يسلّم الكثيرون منذ  أقدم كتاب كتبه الإنسان وحتى زماننا ولربما إلى ما بعد زماننا هذا ، إلى أن الكتابة صنعة شأنها شأن غيرها من الصناعات التي تكتسب بالمران ، وأن الكتاب يتفاضلون بقدر ما لهم من دربة في إتقان البناء الشكلي للون الكتابي ، وكذلك ما يسوّدون به الغايات الكتابية من أفكار تتضخم معها اللغة وتتنوع فيها مناقشات العقل ويبرز من خلالها قوة القلم الذي كتبها أو ضعفه . ولاشك أن هذا صحيح إلى حد بعيد ، لو نظرنا إلى الكتابة في جانب الشكل والإنشاء المجرد من محاكمة الذوق عند من يقرأ وعند من يكتب كذلك . ولكننا بهذا نحكم حكما جائرا على مساواة في غير محلها تضع كل الآثار الكتابية التي خلفها البشر في مرتبة واحدة دون مفاضلة لا على مستوى الإتقان العام ؛بل على مستوى الشعور ،فالكتابة لا تخلو من العاطفة التي تعزز لصاحبها صورته المتفردة؛ ليس فقط ليصبح الرجل هو الأسلوب كما قال طه حسين ، بل إننا نتجاوز الأسلوب لنقول ليصبح الكاتب هو الروح التي تظهر في نصه ،وهذه الروح ما زلنا حتى اليوم نقف حائرين في تفسيرها بما نقرأه في مأثورات الأدب العالي أو المؤلفات العظيمة التي غيّرت مسار الفكر الإنساني . إننا لابد وأن نعترف بأن ما وراء قوة الشكل الظاهري للكتابة ، قوى خفية مؤثرة تخرج من روح الكاتب الفذ الذي يمتلك ربما عن وعي أو غير وعي أن يدرجها في صحائفه روحا وريحانا تهش لها نفس القارئ المتبصر ،لذلك يخلد الكتاب العظماء بقدر ما تقوى جذوة هذه القوى في سطورهم ،ويزداد الإقبال على قراءة مصنفات أولئك الذين ما يزالون رغم تطاول العهد وتقادم القلم قادرين على إيقاد الشعلة المقدسة داخلنا ، تلك الشعلة التي تجعلنا نشعر بلذة "كشف" حين نقرأ سطورا عظيمة خرجت من قلب عظيم لأن كاتبها هو حب عظيم .
إن الكتابة من القلب هي الثيمة المستقرة عند الكتاب البارعين ،فهم لا يضعون أفكارا صماء ولا ينظمون كلمات جوفاء ، بل إنهم يودعون أثمن ما تنبض به قلوبهم ، ويُخضبون عصارة أرواحهم في آثارهم ،حتى لكأن الكتابة بالنسبة لهم سبحة روحية تسقط فيها أقنعة الزمان وتطمس في تماديها وانفساحها تضاريس الأمكنة الضيقة ، فيعود كل شيء وقد اكتسى لحمة جديدة تربطه ببقاء يتجاوز القصور الإنساني في الكاتب ،  فنشعر مع الكاتب أنه إنما يتلقى كتابته من مستويات عليا عن كرة الأرض البشرية ،ربما لذلك اقترنت الكتابة ومنذ فجر التاريخ بتلك الروح الصاعدة أبدا إلى السماء فكان الكتاب من الرهبان وذوي الطموح في النزاهة الروحية ممن يكتبون من عروش لا تستقر عليها إلا قلوب خاوية إلا من همّ السمو . لعلنا نقرّب المسألة أكثر حين نقول أن الكتابة من القلب إنما تعنى لحظات الإلهام يعيشها الكاتب ويأخذ معه قارئه ليتذوقها ، ولكل كاتب رحلته التأملية الإلهامية التي تكشف له فرائد من الكلام وقلائد من الأفكار ، ما يجعلنا نريد أن نقرأ هذا الكاتب وليس الكتابة مرة تلو الأخرى .
كيف نستطيع أن نكتب من القلب ؟ إن الإجابة تكمن في هيئة واحدة تتجذر لتصبح طبعا آسرا يغلب على الكاتب في شؤون حياته كلها وليس الكتابة وحدها ،ذلك أن أكمل درجات الإبداع الفريد إنما يحصل حين تتشرب النفس بشيء وتصدر عنه دون وعي أو قصد لأنه تحول في داخلها من رغبة في محاكاة وجود ما ( تقليد كاتب آخر مثلا أو التحلي بخصال جديدة لتسهيل الكتابة ) ،إلى وجود حقيقي لا تعرف فيه وجها آخر؛ إنه ما عبر عنه القدماء باكتساب ( الملكة ) ، ملكة الكتابة .
 إنما تحصل لك الكتابة من القلب حين "تمتلئ بما تكتب " بكل ما ترسمه كلمة " الامتلاء" من صور وإيحاءات تسد عليك نوافذ التطلع إلى غير ما أنت فيه الآن من لحظة الكتابة، وتحول دون تسرب النوايا الأخرى إلى شغلك الكتابي ،فلا تفكر في مدى تقبل الآخرين لما تكتبه ، ولا يزدحم فكرك في مراودات الأغيار ،بل إنك للتلاشى حتى عن نفسك لترى أنك موجود  بقوة وجود موضوعك في داخلك يافعا .إن الكتابة من القلب تعني القبض على لحظة يتحد فيها عقلك وقلبك معا في فعل واحد هو أن تكون ما تكتب ،إنك تمارس حينها الشفاء الذاتي والإصلاح الروحي، ولاشك أنك وبدون وعي منك تتحول لتصبح داعية على النفس الإنسانية غير منفصل عن همومها فتصل إلى النقطة التي يتلاقى فيها كلّنا الإنساني المشترك فتصبح ذلك الكاتب الذي يبحث الآخرون عن كتاباته لأنهم يرون فيها أنفسهم بكل مافيها من تناقضات ولحظات سمو و تطلعات إلى الحال الأفضل ... وإذا سئل عنك غيرك فسيقولون : إننا نقرأ له لأنه يكتب من القلب !.

متى تشعر أنك تكتب من قلبك ؟ وماهي من وجهة نظرك مواصفات الكتابة من القلب؟ هل شعرت يوما أنك تقرأ لكاتب يكتب بقلبه ؟ شاركنا بأسما هؤلاء الكتاب النوابغ في التعليقات وسنقرأ لهم نحن أيضا .. شكرا مقدما 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )