لماذا "كل يوم كتابة" ؟


    سالت نفسي قبل أن يسألني الآخرون : ما الاسم الذي أريد أن أطلقه على هذه المدونة ؟ عصفت في ذهني أسماء متعددة ، أسماء وقورة ذات وقع فخم على غرار تلك الكلمات الجذلة التي كانت تضج لها لغتنا العربية الجميلة منذ بواكير القرن الماضي ، يوم كانت العربية تكتبها العقول والقلوب لا الأقلام وحدها ، وأقصد هنا العربية التي صنعها المترجمون الخبراء في الشام ومصر والعراق ودول المهجر ، وقرأنا بها تلك المؤلفات والترجمات الرائعة لكل الأدب العالمي والفكر الإنساني .
ولكني أردت لهذه المدونة أن تكون شحذا نفسيا ذاتيا ،لأني أعرف بأني سأقصر لاحقا ؛كما تباطأت سابقا ،عن جعل الكتابة وجبة يومية تماما شأن الممارسات اليومية المعتادة في حياتي ، وفجأة لمع في ذهني هذا الاسم : كل يوم كتابة ، ومعه العدد 365 وهو عدد أيام السنة باستثناء السنة الكبيسة لأني سآخذها وقتها راحة تامة !!
إن هذا الاسم أشبه بالتعهد الرسمي بين مؤسسة القلم في يدي ، والمؤسسة الفكرية في وجداني على أن تظل هذه الشراكة مستمرة مدة عام كامل –وأرجو ألا تنفصل بعدها !-و لأن أخصص  جزءا من وقتي كي يأنسا ببعضهما ، وأن أعقد هدنة في معركة الشتات اليومي لأستجمع بها ما تبقى ما نبض الحياة فأمنحه لهما ليعيدا تألق الإنسانية في داخلي ، ولربما يكتبان لي خلودا طالما ما حلمت بأن أقف به في صفوف المصطفين الأخيار . إن الكاتب الحقيقي هو إنسان ملتزم بالكتابة كممارسة مقدسة لا يفتر عنها ،تماما كأوراد المتصوفة التي يعرجون بها في ملكوت المكاشفات ،ولعل نصيحة ( اكتب كل يوم ) المشهورة التي يُنصح بها كل كاتب هي تميمة من أعمال الغيب التي تأتي بركاتها لاحقا عندما ينسال القلم غضا طريا متجاوزا وعورة الفقر اللغوي ، وضاربا صفحا عن جفاف الأفكار المؤقت ، فتظل القدرة على الكتابة متأججة يوريها الكاتب حتى على حين كسل منه .نعم هذه هي الحال التي نود الوصول إليها كأفراد نطمح في أن نكون مشاريع كتاب خالدين : أن نشعر أن أرواحنا تكتب قبلنا وأن المسافات الشاسعة بين السطور البيضاء سرعان ما تخصب بإبداعاتنا التي هي رموز عقولنا المكدودة من ضرام الأفكار وترجيح المعارف وتعديل الآراء ،ولعله بقدر ما تحترق الأقلام في يراعنا بقدر ما يفوح بخورنا  في ليالي ستأتي يوما ما وهي سوداء منا .
لا يشترط أن نكتب كل يوم شيئا جديدا ، بل يكفي بأن نجلس هكذا نسمع صوت أنفسنا و نتيح لها حرية تسجيل الاعتراض على الصخب والهرج والمرج الذي بات سمة واقعنا المعاصر ، لنكتب ( لا ) أو نكتب ( نعم ) لا فرق ، المهم هو أن نظل نكتب ...
قد يرى البعض أن هذا النوع من الكتابة اليومية قد يهلهل سطور الكاتب ( أي يجعلها أشبه بالقصيدة الفاترة التي لا تحوي عمقا في الأفكار ولكنها شوارد ألفاظ من هنا وهناك ) ، قد يكون لهذا وجهة نظر ، ولكن الثمرة التي يجنيها الكاتب من تعوّد الكتابة كل يوم ؛يشعر بها هو وحده ؛ يقظة في روحه ، وسهولة في قلمه ، ويسر لا عهد له به  من ترتيب الأفكار وتوارد الألفاظ على مخيلته ، ويصبح حينها تماما كما يقال ( نسيج وحده ) .ومما لا شك فيه أن الكتابة اليومية ليس بالضرورة أن تكون في ألوان كتابية ذات الهوية العميقة والمتقدمة، فهذا يتوقف على دربة الكاتب نفسه ومطاوعة خياله في الكتابة ، وشخصيا لا يعني أني أكتب في هذه المدونة كل يوم أن ما أكتبه هو منتهى ما أصبو إليه أو ما أستطيعه ! كلا ، ولكن تخصيص ورقة خاصة للكتابة اليومية يفيدني في شحذ الطاقة وتصفية القريحة لتلك الكتابة المتقدمة التي أحلم بها . إننا هنا في الكتابة اليومية نجرب حلم الكتابة ونفسر رؤيا الإلهام ، أما متى تنزل الرؤيا على الواقع ونراها شاخصة أمامنا في عمل متفرد ؛فهذا من شأن الغيب وأقصد غيب كل كاتب في نفسه حين يقول ( جاء وقتها .. الآن ) ،ونحن لسنا أبدا بقدراتنا البشرية المجتزأة  مخولين لأن نفك الغيب ولو مع أنفسنا .
من أجمل الكتب التي قرأتها باللغة الانجليزية حول الكتابة كل يوم- سأشير إلى اسم الكتاب والمؤلف في ختام هذه المداخلة - ، كتاب وضع فيه كاتبه 365 فكرة لكل يوم ( بالمناسبة لم أقتبس العدد أو الاسم منه ولكنه توارد خواطر لكتاب مؤرقين بالكتابة اليومية !) والجميل أن كل يوم يختلف تماما عن اليوم السابق وحتما عن اللاحق ، إنه يموج بك بين ميادين شاسعة قد تغفل عنها أحيانا ليعود بك وقد أنتجت وحدك نتاجك الكتابي اليومي .

حقيقة أن مسألة الالتزام وأقصد هنا كلمة الالتزام بكل ما تحمله من قيود وأوصار من جهة ، واعتبار وتقدير للقدرة الإنسانية من جهة أخرى ، إن الالتزام هذا مسألة نلتمس جوانبها في حياتنا اليومية وتعمل الشريعة الإسلامية على تدريبنا عليها ، فالصلاة اليومية صورة صادقة لقدرتنا على الالتزام تصديقا يوعد غيب سياتي يوما بما تحمله بركات هذه الصلاة ، وفي المعنى المجازي من الصفاء والأمل والتواصل نستطيع أن نرى في الكتابة شيئا من ذلك الالتزام المقدس الذي ستحمل لنا الأيام بركاته  ولا بد ؛عاجلا أو آجلا.

هل تود حقا أن تكتب كل يوم ؟ لماذا تود ذلك ؟ التطلع بحد ذاته طريق نحو التفكير والإعداد فشاركنا تطلعك من خلال تعليقاتك على هذه المداخلة ... شكرا مقدما 

اسم الكتاب : The daily writer
اسم الكاتب : Fred White
 رابط الكتاب على موقع الشراء أمازون : 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )