لحظة الإلهام


     إنها اللحظة التي ينتظرها كل كاتب ،تماما كما الأرض تستمطر  الغيث بعد أن بارت فيها قوى الحياة . فهل الإلهام وقود الحياة للكتابة ؟ أم أنه أحيانا ما يتحول إلى قاتل للروح الإبداعية لدى الكاتب ؟ لاشك أن الكتابة الملهة أي التي تأتي جراء تولد الإلهام هي أعظم ما ينتج العقل وأسمى ما تستولده الروح ،ولعل أكثر ما خلده التاريخ من عبارات إنما كان نتاج هذا الشعور غير القابل للتفسير الذي يجري الحكمة على لسان القائل ،أو يفجر الإبداع في يراع الكاتب ،أو يغذي مسير المتفردين في غمار الحياة الدنيا .ولكن هل يعني ذلك أن نتوقف عن الكتابة إلا عندما يطرقنا الإلهام الذي هو شيء غير قابل للاستجلاب بقوة الإرادة ، وهو كذلك أشف جوهرا من أن نستطيع القبض عليه واستبقائه فترة من الزمان ريثما تنتهي السطور من مخاضها ؟؟ إن انتظار الإلهام هو سبب أعظم لقتل شرارة الإبداع تماما كما أن تجاهل الإلهام حين وروده على الخاطر هو تبديد لصفاء الإبداع ! إن الإلهام وإن كان شيئا لا يدرك له زمان ولا نستدل بقرب حلوله على مؤشرات واضحة حتى الآن ، إلا أننا نستطيع أن نهيئ لعقولنا وأرواحنا حالات شبيهة بلحظات الإلهام قد تعمل على زيادة مرات تنزله أو تعمّق من تأثيره في عمل الكتابة ،فما بين "التهيئة" المقصودة من جهة ،و"الإلهام" العفوي من جهة أخرى يعيش الكاتب أعمق تجاربه الكتابية وأصفاها ويظل على لقاء متكرر مع قلمه مما يتيح له أن يرسم وجوده الدائم في وعي الزمان .وقبل أن ندخل في رسم خطوط هذه التهيئة ، لعلنا أولا نرد على سؤال هو من المكرر ولكنه من نوع التكرار المؤكد لا العابث : لماذا نسعى إلى الإلهام ؟
إن الإلهام هو تلك الشارة الربانية التي تجعلنا نعلن بقوة حجم استفادتنا من قراءاتنا المتصلة ومطالعاتنا المتراكمة عبر السنين ،فنحن عبر الإلهام نتحول من شهود قراءة  إلى شهود كتابة ،أي أن الإلهام هو الميزان الذي نزن به هضم الأفكار التي نتلقاها من محيطنا وعبر سنوات وجودنا ،ومدى ما يبذله عقلنا بل ووجدانا كله في تحويل تلك الأفكار والاستفادة منها في استيلاد أفكار جديدة أو مواقف تتلاءم مع عيشنا الحاضر .ولعل الكثيرين لا يدركون أن القراءة هي الارتباط الأول بالإلهام قبل الكتابة التي تأتي في مرحلة تالية . فمثلا لو أننا كنا نقرأ كتابا لكاتب مفضل لدينا أو نقرأ حول موضوع يثير في داخلنا أسئلة عديدة ، فإننا في لحظة ما نشعر بشيء يتوقد في داخلنا يريد أن يخرج ، فلو كان بجوارنا ورقة وقلم ، فإننا بحركة غير إرادية نأخذ القلم ونبدأ في تسطير عبارات أو كلمات قد لا يربط بينها رابط ، ولربما نطرح أسئلة أو نجري نقاشات حول ما فهمنا من سطور أو ما ترسخ في وعينا من أفكار ،تلك اللحظة هي لحظة الإلهام التي يعيشها القارئ دوما تجاه المثير الذي يقرأه .بمعنى أن الإلهام يعلي من مستويات الوعي والشعور داخلنا، ولا شك أن هذا النوع من الإلهام وإن كان متأثرا بطريق مباشر أو غير مباشر بما نقرأ إلا أنه ذا أهمية خاصة في تعلم أبجديات الكتابة التي ما تلبث بالرعاية أن تصبح مهارة نكتسبها في الحياة .والإلهام باعتباره من عمليات العقل فإنه يساعدنا على رسم خارطة ذهنية خاصة بنا قوامها محثات هذا الإلهام الذي يشبه حينها رحلة الحج نحو الداخل ، داخل أنفسنا فندخل في مرحلة من الصفاء الذي تنزاح في بيدائه الهموم والمشاكل الصغيرة؛ لذلك فكثيرا ما يكون الإلهام في هذه الحال شريط التأمل وشريكه ،كما أنه ينشئ علاقة روحية مع الكتابة ،وهذا تحديدا ما يشعل جذوة الإبداع داخلنا ،فالروح هي معراج الإبداع ، كما أن الإلهام هو مسرى العقل .
فكيف لنا أن نهيّئ للإلهام ؟ حقيقة أن الإلهام هو غاية الفوضى ! لذلك من الخطأ أن نطلق عليه " عملية " وهو خال من أي هندسة مقصودة أو نظام يرتكز عليه ،إن الإلهام يحمل تنافضه في داخله و يستحيل تفسيره إلا بأثره الذي ينتجه ،والصعوبة تكمن أنه حتى هذا الأثر المنتَج لا يخرج كاملا رغم المخاض العسير الذي يضج في وعي الكاتب ،بل إنه يخرج شيئا مبعثرا تارة ،أو ضبابيا تارة أخرى ، أو حتى بأصوات ذات ضجيج لا يمكن التمييز بين الوتير والناشز فيها .ولكن هذه الفوضى من جهة أخرى هي سر جماله كذلك ،لأنه يأتي من لاشيء ويدع أمامنا كل شيء ،وهذا بالضبط ما نحتاجه في الكتابة  .. كل شيء ؟!!
أول تهيئة للإلهام هي أن نعيش بعقلنا كله ، وأن نتعلم أن نرفض التشتت وتخرجه من العلاقة بين الروح والعقل ،إن ممارسة التأمل الدائم مع التنفس العميق يساعدان على حدوث السكينة داخل العقل وهذا مما يسهل طمأنينة الروح ،وبين هذه السكينة والطمأنينة يجد  الإلهام طريقا آمنا إلى الأفكار فيرتبها وإلى العاطفة فيذكيها .وليس معنى السكينة أننا لا نتألم أو لا نحزن ؛بل إن أروع الإبداع ما خرج أحيانا في لحظات الحزن ، ولكن هناك شعرة حادة بين الإضطراب في العاطفة أو الأفكار الذي يجفف ينابيع الإلهام وبين الشعور بذات الألم دون أن نخرج به حد الجزع ،فمع الجزع يخرج كل شيء عن سيطرة العقل ،وهذا أكثر ما يأباه العقل .
فإذا باغتك الإلهام لا تؤخره ولا تطلب له مكانا أو زمانا مناسبا ،بل اتركه يخرج كما هو واجعله يعطيك خير مافيه دون تدخل منك في افتعال استجلابه أو توجيهه , فلا مجال هنا لرسم خارطة طريق وإلا لضلّ إلهامك الطريق !! اكتب كل شيء يوحيه إليك ، ولو كان كلمات أو أنصاف عبارات ،شيء من النثر ، بعثرة من الشعر ،كلمات لا وجود لها في قواميس اللغة ، أو ربما صورة وجه بعين واحدة ! اقبل كل ذلك منه فعندما تنطفئ جذوته سيعمل العقل تلقائيا على ربط هذه الرموز والأسرار لتخرج خارطتك كاملة بمعالم واضحة .
قد نخلص إلى القول إن الإلهام يجعلك ترسم الحلم لا أن تنتظره كل ليلة ، فكما أن الحلم له عالم لا حدود له ، اترك إلهامك بلا قيود وسيحقق لك حلمك الأثير ... حلم النص القادم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )