حفظ الحق اللأدبي
كلنا، أو لعلهم أهل الاهتمام فحسب، يدركون مدى اللغط الذي أثاره نشر كتاب " في الشعر الجاهلي" لعميد الأدب العربي طه حسين. وعلى الرغم من أن الحكاية قد اكتملت فصولها وراء هذا الكتاب، غير أن ما تركه من أثر في الخصومات الأدبية والفكرية قد اشاح عن بؤرة سريعة الاشتعال حين يتعلق الأمر بالتراث العربي.
ولكن ليس عن هذا نتحدث هنا.
بعد انقضاء سنين عددا على معركة كتاب " في الشعر الجاهلي"، استطاع كاتب لديه هوس في جمع المقتنيات القديمة من الكتب والمنشورات، أن يعثر في محل لبيع الأوراق القديمة والكتب المستعملة، وبعض النسخ النادرة كذلك من أمهات الكتب- استطاع هذا الكاتب أن يعثر على نسخة من ملف قضية التحقيق التي تضمت استجواب عميد الأدب العربي طه حسين حول كتابه المذكور، بعد أن تقدمت أكثر من جهة بشكاوى حول خطورة ما يعرضه الكاتب في كتابه من هدم لثوابت دينية ومجتمعية وتاريخية. فما كان من النيابة العامة في دولة مصر إلا أن تستدعي الكاتب لتحقق معه، ما دامت المسألة قد تحولت لقضية رأي عام. وعلى الرغم من أن النتيجة كانت لصالح طه حسين، حيث لم يتم إيقافه، ولا حتى منع نشر الكتاب، وإن كان الكاتب قد أدخل بعد التعديل حينا تاليا، غير أن هذا الحكم بإخلاء سبيل الكاتب والكتاب لم يكن مرده قوة حجة العميد طه حسين في الدفاع عن أفكاره، بل هو لفتة من النيابة العامة في مصر في التمسك بدستور البلاد في الحفاظ على حرية الرأي وتداول الأفكار بحسب ما هو مقرر في هذا الصدد.
الشيء الذي يأخذ بعقل قارئ أوراق هذا التحقيق، أن مدير النيابة العامة المصرية كان من مستوى الثقافة الأدبية والفكرية التي كانت يستوجب به طه حسين، ما يجعلك تعجب لكيف أن الثقافة لها أهمية في بناء المهن المتخصصة كمهن القضاء والشرطة. والأكثر من ذلك، أن طه حسين لم يتمكن من الرد على مدير النيابة العامة فيما أثاره من محكِّات منهجية في كتابه، ولهذا نجد تكرارا كلمة ( لم يرد الكاتب على شيء!) فهل يعقل أن طه حسين لم يتمكن من الدفاع عن أفكاره حقا؟! هكذا يبدو الأمر.
إن الأفكار التي عرضها طه حسين في كتابه في ذلك الحين، قد درسها اليوم كل طالب جامعي في تخصص الأدب العربي، ويعلم أنها لا تستند إلى حجة منطقية قوية، بل هي مجرد إشكاليات يتم الرد عليها بعفو الخاطر من دارس الأدب العربي. ولعل السبب وراء ذلك لا يعود إلى نباهة طالب دراسة الأدب العربي بقدر ما أن مناهج التعليم في المستوى الجامعي قد تم تنقيحها وتضمنت مصادر في الرد على ما أثاره المستشرقون من أقوال الباطل حول مجمل تاريخ الأدب العربي واللغة العربية.
ولهذا، أجد أن من جدارة الوضع اليوم، وحفظا للحق الأدبي لمدير النيابة العامة المصرية الذي تولى التحقيق مع طه حسين، أقول أنه من الجدير عند إعادة طباعة كتاب " في الشعر الجاهلي" أو النسخة المنقحة منه " في الأدب الجاهلي"- أقول أنه لا بد من طباعة نسخة أوراق التحقيق ملحقا بالكتاب، وليس في هذا إهانة لشأن عميد الأدب العربي، ولكن الأمر هو إثبات كيف أن تأويل الأفكار بالأفكار، هو الأثبت بقاء على مدى الفكر الإنساني. كما أنه برهان على أن الثقافة لا تختص بجهة من الناس، بل بالأصل، أن من ملك ناصية العقل النقي والقلب الحاضر أن يكون صاحب حجة بما يراكم من ثقافة أصيلة ترتكز على المصادر الأصلية، شريطة تحري الحق حيثما كان.
أدعوكم لقراءة هذه النسخة من أوراق القضية مع قراءة كتاب "في الشعر الجاهلي"، فسترون أن الأمر كما لو كان مائدة حوارية ناصعة الفكر من رصين الأدب.
ملاحظة: الكاتب خيري شلبي ، وهو كاتب مصري معروف هو من توصل لنشر هذه الوثيقة.
تعليقات
إرسال تعليق