الموت صديقي


  Photo by Christopher Burns on Unsplash


هل ترى أن العنوان مزعج، ومفزع.. وغير جذاب؟! حسنا، لو كنت مشتغلا بالإبداع فإن هذا العنوان هو حقيقة بدهية عندك!

عدا عن استقرار المفهوم القائل بأن موت المبدع هو بمثابة الشرارة التي تطلق كل أعماله ليتم تداولها كما لم يشهده في حياته. حيث ينتهي رحيل المبدع بمثابة قطعٍ لشابكة العلاقات النفعية التي كان من المرجح أنها تلعب دورا في الترويج لأعماله، وعندها تبرز القيمة الأصيلة للإبداع الحاكمة أمرها بأمرهما معا. 

غير أن ما بنيت عليه فكرة هذه التدوينة؛ ما يتلبسني من شعور قوي عندما أقرأ كتب الراحلين بأنهم في الحقيقة حاضرون وبشكل يفوق حضورنا نحن الشاهدين! فالكاتب يفرض عليك حلوله حيا مباشرة عبر أفكاره ولغته، وما لم "تمت" أنت كذات مختلفة لحظة القراءة، فإنك لن تتواصل مع مكنونات الإبداع في العمل. إن هذه اللحظة الجامعة لإحياء الكاتب وموت القارئ -حقيقة ومجازا- تفصلنا عن المرحلة البعدية التي نظر إليها دريدا حين قرر نظرية موت المؤلف عبر بقاء نصه.

لا تعلو فخامة الإبداع إلا مع اليقين بأن الموت إهداء الوجود لعقل المبدع الموهوب. فما لم نؤمن بموت فكرة لن تولد تاليتها. وإذا كانت الحياة كمخلوق تنتهي بالموت، فإن الأفكار بصفتها الخالقية، تبدأ بالعدمية ثم تستمر دون موت، إنما تقلبات وتحورات تصبغها بصبغة الخلود. 

ولعل التسليم بموت الفكرة قبل إحيائها، يقلل من النتائج الخطيرة التي ترافق تجدد الأفكار، إذ نضطر أو نختار الانتقال من نموذج فكري إلى آخر قد يضاده بالكلية، ولكن لا مفر من التخطي لنستمر في حيوية التداول، أي الموت ثم الحياة.

وما ينبهني - قارئا- أهمية أن أعود -مرارا وتكرارا- للنتاجات الأدبية  والفنية للعصور المتعاقبة، فلا قديم في الإبداع مطلقا، وهذا يعني أنه ، أيضا ، لا حديث إلا بقدر ما نحيا نحن فيه. إذ إن الفكرة المتخيلة؛ من  أننا قد نصير "قدماء" يوما ما، لن تعود كئيبة حين نقر بمبدأ أن أفكارنا لا بد أن تموت لتعيد نشور التجدد والتداول. 

الأمر الأخير في حيوية الإيمان بأن الموت ضرورة للمبدع والعمل الإبداعي تبعا، تأتي من أن الأعمال الإبداعية يطول مكثها في ذاكرة الأرض والتاريخ كلما التمست "التجاوز" روحا في نظمها وكتابتها. إن الإبداع هو سير نحو الأعالي، ففيه مشقة السير مع جهد العلو.  وهذا يطلب من المبدع أن يتصور موت العالم اللحظي الذي اشتق منه الصورة الأولى، ليسمح بتفصيلة مغايرة ، قد تكون أفضل أو أسوأ، ولكنها في ذاتها لن تخلَق ما لم يسبقها فناء. أمِت عالمك لتنشئ عالما تعيش فيه فكرتك. 

الموت إذا فلسفة وجود للإبداع، سمها ما شئت: موت المؤلف، موت القارئ، موت العالم، موت اللحظة ..المهم، أننا أمام موت وفيّ جدا بدونه لن يعيش الإبداع أبعد من ذاته. 

ختاما، قد يكون في تفعيل وجهة نظر المبدع للموت على أنه شريك في الإبداع، باب للشفاء من تروما الموت، ذلك الهاجس التشاؤمي الذي يصيب الإنسان عبر مختلف مراحل حياته. ففكرة التلاشي واللا-ذِكر هي الكابوس وراء اعتبار الموت مرحلة لا عودة إلى الحياة. وإن الإبداع ليغربل هذه الفكرة ويشدها إلى حيث مبدأ الحياة كله ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )