قدمي اليسرى - MY LEFT FOOT


       النصيحة التي تُعطى في مجال الكتابة لا تختلف بحسب تفاوت قدرات الشخص المقصود ، ولعل هذا ما يجعل الكتابة "سيدة نفسها " ، فهي تحمل الآخرين عليها ولا يحملها الآخرون عليهم ! وسواء أكنت مستويا في العمر أم فتيا، أو كنت مخضرما في الكتابة أو مستهلا فيها ، وحيثما كنت في تغريبة شرقية / غربية ، أو في مواطنة محلية / عالمية ، فإنك تدخل ذات البوابة وتخضع لنفس الاختبار حين تتهيأ كي تصبح "كاتبا" !... أفلا تحقق الكتابة –بروحانيتها- مساواة عجزت عنها كل القوانين البشرية !
عندما شعر "كريستي براون " أن شيئا آخر غير الرسم ، قد يحقق له أفقا أوسع في التواصل مع المحيط حوله ، ويؤرِّخ له خلودا في عوالم قادمة من الغيب ، وقد آمن أن "الكتابة" وحدها فارسة كل المراحل ، قدّم له أستاذه ، و الكاتب الإيرلندي الشهير كذلك ، نصيحة من نقطتين ، لا تكاد تخرج عنهما أي مشورة لكل من يئن حرفه في عالم الكتابة ، وتتخلص في :
الأولى : حتى تكتب يجب أن يكون لديك قصة ترويها
الثانية : ولابد أن تجعل القارئ يرى نفسه يعيش أحداث هذه القصة .
ولو حلّقنا عبر الأزمنة على أجنحة النقد والدرس ، فإننا نجد أن أكثر الكتابات ( روايات ، مسرحيات ، ملاحم ، أشعار ، مقالات ، أطروحات علمية ....إلخ) نجاحا ، هي التي لم تخرج عن قوانين هذه النصيحة : هل لديك ما تقوله ؟ وكيف تريد أن تجعلني أشعر به وأتفاعل معك ؟  لذلك فإننا حين نقرأ الروايات التي حققت نجاحات عالمية وتظل منذ كتابتها وحتى يومنا – وما بعد يومنا – تحظى بالطباعة والقبول ، هي تلك الكاشفة لما يجول في خاطرنا ، ومشاعرنا ، وتساؤلاتنا ، وحتى شكوكنا وإنكارنا ! حين يستطيع الكاتب أن يوصلني لأن أرى نفسي بين سطوره ، ربما في كلمة ، أو حكمة ، أو حدث ما ؛ حينها يكون الكاتب قد اكتسب ثقة القارئ ، وما على القارئ من دور هنا سوى أن يُسلم للكاتب بأحاديث جانبية تأتي من خلال التفاعل معه ، إما إن كان تواصلا حقيقيا ،  في حال كان الكاتب على قيد الحياة ، أو تواصلا غير مباشر ، عبر نشر الكتاب وحثّ الآخرين على قراءته ووضعه في المكتبة واعتباره من إرث العمر والخبرة .
وبالعودة إلى " كرستي براون " ، والذي عانى منذ ولاته من شلل دماغي أفقده القدرة على تحريك أي من أطرافه سوى قدمه اليسرى التي كانت وسيلته الأولى إلى العالم ، فإنه قد أقبل على الكتابة في عمر نضجت فيه حاجته إلى مزيد من التفاعل مع المحيط ، فوجد في الحروف والكلمات حقلا أعمق تتفجر فيه الأفكار الإنسانية وتؤتي ثمارها فكرا و روحا ، ورغم مشقة الحال التي كان يعانيها ، إلا أستاذه في الكتابة لم يرض أن يجعل من علّة "كرسيتي براون" تبريرا لتعبيد طريق الكتابة أمامه ، بل ظل يدربه ويقسو عليه أحيانا حتى استطاع "كرستي براون" أن يصير أديبا مرموقا في تاريخ أمته ، ومثالا لائقا للقدوة على مستوى العالم الذين قرأوا قصته وتفاعلوا معها .
إن الكتابة لا تكون شفاء من علة قائمة فقط ؛ بل إنها تتجاوز ذلك لأن تصير "الوجود" الآخر ، وبمصطلح علماء النفس والطبيعة ، فإن كل الأفعال التي نقوم بها ترسم حول كياننا المادي المشاهد ، جسما آخر هو الجسد الآثيري الذي يحمل النوايا وحصاد الأفعال وكل ما نقوم به في حياتنا ، ومن خلال هذا الجسد الأثيري يتم التنبؤ بمصير الإنسان بما هو عليه من عافية وخير أو بلاء وشر .
حين تكتب ، كُنْ راسخ الاعتقاد ، أن هذه الكتابة هي خَلْقا آخر لك ، جسما جديدا أنت تنحته وتحكم بناء عضلاته ولُحمة نسيجه ، وحين ترى نفسك من خلال ما تكتب فإنك تكون قادرا على رؤية  الآخرين بعين البصيرة ، لأن الجسم الآثيري يستشعر ويتلاقى مع الآجسام الأثيرية الأخرى في العالم ، يتحادثون ويتجاذبون ويبثّ كل منهم قصته للآخر ، فإن استطعت أن تسمو برؤيتك لذاتك وللآخرين ولكل مجريات الحياة ، فإنك ستكون قادرا على استحضار العديد من الأفكار التي تغذي بها قلمك ، لأنك باستمرار ستكون محمّلا بالقصص .
·       كتاب كرسيتي براون : باللغة الانجليزية
My Left Foot : Christy Brown

·       نُقل الكتاب إلى اللغة العربية : بعنوان ( قدمي اليسرى ) ، ترجمة خالد الغنامي ، مراجعة د. أحمد خريس ، الطبعة الأولى 1433/2012، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة " مشروع كلمة" 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )