لأننا موعودون بالبقاء ، ثم النماء ، ثم الخلود!

       كنت قد كتبت مع بدايات الثورة السورية عددا من التدوينات ، ولكني حذفتها رغبة في النأي عن مشاريع الكرّ والفرّ السياسية، والتي أصبحت تشكّل طوقا خانقا على مسارات حديثنا ، وتداولات أفكارنا ، كما استنزفت قوى التطلع فينا ، على نحو ما . وليست المشكلة في أن تتحدث عن آلامك في الوطن الممزق ، ولا أن تسمع أنين المعذبين،  ولا صراخ الرافضين ، ولكن الخطورة في أيامنا العربية الراهنة أن تتحول الآلام إلى أرزاق النهار وتسابيح الليل ، وإذا كان الإنسان في نموه العادي قد يظل يئن ويتخبط في تصرفاته تحت تأثير موقف سلبي تعرض له في طفولته أو في مرحلة ما من حياته  ، فترى تداعيات الذكريات الأليمة توجّه فكره وردة فعله في مواقف الحياة المختلفة ، فكيف بنا ونحن نرى الملايين من أبناء الشعوب العربية من كل الفئات العمرية ؛ الأطفال والشباب و الكهول ، يعيشون النفي والقتل والتشريد والفقد ..إلخ ، فأمام ذلك تهولك فكرة قاتمة من أن مشكلاتنا لن تشفى حتى لو استقرت الأوضاع الحالية ، لأننا قد اكتنزنا في داخلنا من المرارة والسواد ما هو كفيل بتشويه الإنسان في داخلنا ، وهذا من أمض علامات الهزيمة للمستضعفين ، وهو كذلك من أعظم شارات النصر للمتغلبين ! ذلك أنك يكفيك أن تجعل ضحيتك تعاني عقودا طويلة  أو ربما كل أيام عمرها ، لتظل تشعرك بالانتصار،  وأنت تراقب سيرها يتحدد من منطلق النقص والرفض والاضطهاد ، لا من دافع الحب والحرية والقوة .
من تلك التدوينات التي طالها الحذف على المدونة ، مقالة بعنوان ( وحدثت الفتنة !) وفيها أفشينا خوفا كان يسري خفيا حينا و فاشيا حينا آخر ، من أن ما يحصل في سوريا منذ ثلاث سنوات هي حرب طائفية يراد لها أن تشب أوارها بين السنة والشيعة  ، وأن الأحداث قد خرجت عن مطالب الثورة والحرية ، وقتها آليت على نفسي منطق التفاؤل و وعظ الصغار فحذفت المقالة حتى لا أنظر لأحوالنا العربية بعين السواد !
أما اليوم وقد اشتعلت  العراق ، ولم تهدأ ساعة من مخلفات الاحتلال الأمريكي ، فإن اتساع الفتنة كل يوم يُنذر بتحقق النبؤات النبوية ، من أنه في آخر الزمان يكثر الهرج أي القتل حتى لا يدري القاتل فيما قَتل ولا المقتول فيم قُتل ! ورغم أن الأمور، ربما،  تكون واضحة عند أصحاب الحق في العراق وسوريا ، غير أن الصورة العامة من اقتتال الشعب الواحد ، والملة الواحدة ، يحقق أكثر التوقعات الظلامية للحال التي نعيشها اليوم .
ولسنا في معرض نقاش أو وضع مقترحات ، فأهل مكة أدرى بشعابها ، وبما أن صوت الدين قد حلّ مكانه صوت الدم ، وصوت العقل قد انزوى في أتون التضاربات ، خاصة حين نرى أن المرجعيات الدينية الكبرى في الجانب الشيعي في العراق قد نادت بالنفير العام للجهاد المقدس ! ولا ندري ما وجه القدسية في هذا القتال ، وكيف أمكن أن يُطلق عليه اسم الجهاد ، في حين أن الذاكرة تسعفنا بفتوى أكثر غرابة حين دخلت حجافل الاحتلال الأمريكي إلى العراق ، فكانت ذات المرجعيات تفتي بتحريم التعرض للقوات المحتلة أو وقف تقدمها !
بما أن هذا كله قد بات خارجا عن إدراك الإنسان العربي وسيطرته ، ذلك الإنسان الذي صار يعيش لحظته ويرمي خلف الأفق أحلامه ، فإننا مع ذلك ملزمون بزيادة جرعة الصبر والتصبر والتزود بذكريات التاريخ البعيدة جدا كي نستمر في البقاء ، ثم في النماء ، ثم في الخلود !
إن تاريخنا القديم ، في المنطقة العربية ، يكشف لنا الكثير عن المحن التي تعرضنا لها ، كانت هذه المصائب ما بين أمراض تصل حد الطاعون الوبائي، أو كوارث بيئية وجفاف باغت أجزاء واسعة من الأرض العربية منذ أقدم العصور ، ثم الحروب الطاحنة التي امتدت ولم تفتر على طول تاريخنا ، سواء كانت حروبا ضد الخارج أو فتنًا داخلية ، ويكفي أن نستعرض هنا تاريخ الهلال الخصيب واليمن السعيد حتى ندرك أن القاعدة في بلادنا العربية هي البقاء ، ثم النماء ، ثم الخلود !
 وضع تشارليز داروين نظريته حول البقاء للأقوى من وجهة نظر تصارع الأنواع ، وبالتالي يستحق القوي الحياة على حساب الضعيف المسحوق ، وقد طبق نظريته هذه حتى على الحياة الإنسانية ، ولكن غاب عن داروين أن الإنسان من حيث هو خلق الله المكرّم يختلف في تفاعله مع مشكلاته و مواجهة صعوبات البقاء، اختلافا بيّنا عن الحيوان ، لأن الإنسان الذي يُنظر إليه على أنه عامر هذا الكون ومستعمره ، قد غذَاه خالقه منذ بواكير نفخ الروح فيه بمواهب تضمن له البقاء في أرقى تجلياته ، والنماء في أزكى تحولاته ،و الخلود في أعلى مراتبه !
إن النصر في المجتمعات الإنسانية أوقات المحن ، لا يتحدد بمعايير المادة وحدها ، إذ يرجح بذلك كله ؛ قوة الصبر والإيمان بالحق بالوجود ، بهذه المصابرة ينتصر الإنسان المستضعف على نفسه ، وحينها يهزم عدوه ولو كان سيف العدو مسلطا على رأسه !
ورغم أني لا أدعي حيطة بالأمر من كل جوانبه ، غير أن ما يثير العجب كل العجب الموقر بالإجلال والإكبار ، حين نطلع على الحركة الثقافية العراقية فنجدها قائمة بقوة وعنفوان يفوق ما نجده عند مجتمعات أخرى ، وكأن كل عوامل الهدم والتعرية لم تنل من عزيمة الإنسان العراقي حتى وإن نالت من نخيل العراق ...
وكذلك الحال في سوريا، فإن استمرار حلقات الذكر والعلم في المساجد في دمشق ، وتشبث هذا الشعب باستمرار زراعة أرضه  ، وحتى من خرج من سوريا؛ فقد استطاع سريعا أن يندمج في سوق العمل في بلدان المنفى ، مما يدل على حيوية عصية على الموت ...
إننا الشعوب التي عاشت ما قبل التاريخ على ذات الجغرافية التي نعيشها اليوم ، وقد صانت أرضها ودولها وكانت قادرة في كل مرة على طرد المحتل والمغتصب ومثير الفتن ..
إننا الشعوب التي تحمل في داخلها عنادا أشد قسوة من صخور جبالها الملونة، قحطا وجدبا ،  فتحدّت بإرادتها كل المعوقات وأقامت أعظم الحضارات ...
إننا الشعوب التي تعرف كيف تبكي وتضحك ، كيف تزرع وتحصد ، كيف تنام وتأرق ، كيف تقاتل وتبني ، كيف تموت وهي ما تزال تلد ...
إننا الشعوب التي تعيش بالمعرفة ، وتحيا بالإيمان ، وتحرّك العالم كله يوم تتحرك هي ، لأنها وسط العالم والقلب منه في كل فعل وأثر ، ولهذا لن نموت موتتنا الأخيرة ، بل سنظل نعجن السمن بالصبر ، والعسل بالكرامة ، ونسقي أرضنا العربية القاحلة بذخائر العزيمة والمقاومة..
 وقد علّمتنا شمسنا العربية القائظة ، التي تشربتها بشرتنا ودماؤنا :أن نرفض الغروب ، والهزيمة ، والفناء...
 لأننا موعودون دوما بالبقاء ، ثم النماء ، ثم الخلود . .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )