القلق أفيون الكتابة

https://www.flickr.com/photos/invitojazz/13950472358/

        ما من إنسان يعيش على ظهر كوكب الأرض إلا و يحمل عبئا من القلق . والقلق المفيد هو ما يحمل وجهين متساويين في القيمة ، وجه من الهمّ والحرج ، ووجه آخر من المواجهة لإسكان هذا القلق . فالشعور بالنقص في مجاري الحياة من جهة ، ثم الطموح إلى إكمال هذا النقص من جهة أخرى ، هي عوامل الدفع لتألق الفعل الإنساني ، ولعلها كذلك ما تدفع الإنسان إلى بناء الحضارة . وعند هذا الحد يكون القلق نافعا ، فبعضه كالترياق ولكن مزيده كالسمّ! وفي مجال الكتابة يعتبر القلق قاتلا مخادعا أشبه بالمخدر الذي يظن الكاتب أن في تعوده نفع لكتابته وحيوية لقلمه ، وهو قد يكون كذلك في مرحلة معينة ، ولكن مع الدوام يصيب القلقُ قدرةَ الكاتب بالشلل فلا يقوى على استحضار روحه عند البحث والتنقيب عن أفكار جديدة ، أو استشعار عقد روائية ناضجة .
إن القلق الخطر هو ذلك الذي يستولي على عقل الكاتب فيفقد معه النظرة العميقة إلى مواقف الحياة ، فلا يعود يمتلك مهارة البحث في قصص الناس وأحوالهم ، بل إن القلق حين يكون موجها للقريحة فإن الكاتب يفقد نافذته على الاستبصار بين الحق والباطل والسواد والإشراق ، أي أنه يخسر حينها ميزان الصواب الذي يُنظر إلى الكاتب دوما أنه الإنسان الوحيد القادر على إبرازه وتفصيله وإعادة الروح إليه .
إن القلق المفرط يسبب البلادة ويختلس منا قدرتنا على الشعور بالأشياء والأحداث :
حين نراقب الحياة دون أن نكون قادرين على رؤية تفاصيلها الدقيقة ...
حين تمرّ المآزق من حولنا كشهب تنذر بالخطر دون رغبة في اتقائها ولا الصراخ تحذيرا منها ...
حين ننظر إلى عيون البشر وأفعال القدر ونحن خلو من التفكر والاعتبار ...
حين يستوي لدينا الحب والكراهية ، والغدر والوفاء ، وتجف جداول الشعور في التعامل مع القائم والمعتاد والواقع ...
حين نتورط في اللامبالاة أو نقيضها العصبية ، أو نتاجر بالصمت ونقيضه العبث ، أونهرب من مواجهة التناقضات لأننا لم نعد نلتمس طريقنا في الرؤية والفهم ...كل ذلك هو إشارة خطر على امتلائنا بالقلق القاتل ! قلق يزحف على قوى الإدراك والشعور فينا ليذرها قاعا صفصفا لا تنبت خضرا ولا تحبس مطرا ..! ومع هذا القلق يصل الكاتب إلى مرحلة اليأس من الكتابة ، ويشعر بمرار الخذلان في قلمه ، بل إنه يعود ليتهم الأعوام التي قضاها عاكفا على السطر والقلم ، وكأنها نوع من الاعتقال والأعمال الشاقة لم تترك فيه سوى التشويه وذكريات العذاب ! فلا  مفر أمامه سوى الانقلاب على مبادئه الكتابية أولا ، والذي ينتهي إلى الشعور بفقدان القيمة في كونه كاتبا ثانيا ، ثم ينتهي به الأمر إلى التوقف!  وكم قرأنا عن كاتب من أنحاء العالم اكتفى برواية واحدة أو بكتاب واحد أو حتى عدة كتابات ولكنه في ختام حياته قرر التوقف عن الكتابة لأنه فقد شعوره بفاعلية الكتابة ! والحقيقة أنه استسلم لذلك القلق المضني من سوداوية الأوضاع من حوله وفشله في التفاعل معها !
القلق المفيد في الكتابة ليس هو الكآبة والأرق ، ولكنه التفكر في بناء العمل الكتابي ، والتدبر في حوادث الحياة وكيف يمكن إعادة صبها في قوالب كتابية يكتب لها الخلود ، والتأمل في مجريات القدر وكيف أنها بتفصيل الكتابة عنها تتحول إلى مخازن قوى لا تحد للوجود الإنساني كله .
هكذا نفهم القلق الذي كان أبرز خصائص الكاتب العظيم ( فيودور دوستويفسكي ) ، إذ رغم شدة هذا القلق عليه إلا أنه كان قادرا على أن يسيطر عليه ويحوله إلى شخصيات وعقد روائية يقتل من خلالها قلقه ويغذي بها موهبته ، ولولا قدرته على المقاومة لما كان لنا أن نستمتع اليوم بروائعه التي سمت به إلى أقطاب أدباء العالم المؤثرين .
لنقرأ السطور التالية عن دوستويفسكي من مقدمة روايته ذائعة الصيت ( الجريمة والعقاب ) ، كتب المقدمة د.علي حداد :
يقول دوستويفسكي عن نفسه في الرسائل – الجزء الثاني- ( لست أدري إن كنت سأتخلص من أفكاري اليائسة .. إني أسعى لأكون مجنونا يوما ما .
إنهم لا يدفعون لي ما أستحق ...جعلوني أكتب بسرعة ...لماذا أنا الفقير ، أتقاضى مئة روبل فقط عن كل ملزمة ، بينما يتقاضى توجينيف وهو الغني الثري ، أربعمائة روبل ؟ جعلوني أكتب بسرعة ، من أجل المال ، فأفسدوا عملي .. أنقذني بحق يسوع .
إني لعلى يقين ، أن ما من أحد من الكتاب ، الأحياء منهم والأموات ، يكتب أو كتب في مثل هذه الظروف التي تضغط عليّ فترهقني ، حتى توجينيف يكاد يموت غيظا مني ..إنه يحسدني .. ولكن ، آه لو تعلم ، كم هو مؤلم أن تجبر على دفن فكرة ولدت في داخلك ، فكرة تبعث فيك الحماس والحيوية ، تستفزك لإخراجها من داخلك إلى العلن ، لكنك مجبر على طمسها وإماتتها ) وحول دوستويفسكي يقرر الناقد الروسي الذائع الصيت "ميريا جوفسكي" قائلا : أما دوستويفسكي فهو أقرب إلى الناس ، وأوثق صلة بنا .. لم يعش في برج عاجي ، بل بيننا ، ما عرف الترف والرفاهية ، بل في مدينة باردة ، يكتنفها البؤس وتلفّها الكآبة .. لم يهرب من تعقيدات الحياة بل تصدى لها .. أراد أن يكون صديقا للجميع ، فجاءت كلماته معبرة عن ذات معذبة ، وعن إنسان يصطدم كل يوم بجدار صخري صلب ، لذا لم يتمكن أن يكون شاعريا مثل توجينيف، ولا كاهنا مبشرا بالأخلاق المجردة مثل تولستوي ، بل جعل من نفسه مُلكا لنا . لقد شرب معنا كأس مرارة الحياة ، إنه لا يفعل ما فعله تولستوي الذي لا يسخر من ضعف البشر وحسب ، بل يغذي الحقد ضد هذا الضعف ، ويزدري المجتمع الفكري الذي هو أشبه بالنفاية ، إنه يدين ماهو عزيز على قلوب البشر ومقدس عندهم ، غير آبه بالعواقب ... الأغلب الأعم من بني البشر يرغبون بإخفاء أسرارهم ، إن لم نقل يرغبون بدفنها ، فجاء هذ الكاتب المعدم ، ليزيح عنها الستائر ويتعرف إليها ،  لا ليدين أصحابها أو يحتقرهم ، كما يفعل تولستوي ، بل ليقول لك إنك إنسان ولست إلهاً " فآمِن بالخير ...آمِن بنفسك .. آمِن بالله فهو يغفر لك "
-------------------------
  •       دوستويفسكي : الجريمة والعقاب ، ترجمة عن الروسية : د.شوقي حداد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )