" المتطرفة " ..بدعة كل العصور

https://flic.kr/p/eESw1


      نعود لنتحدث مرارا وتكرارا عن أن اللغة وإن كانت خادمة الفكر الإنساني وقائدته في الوقت ذاته ، إلا أنها –و رغما عنها – تقع أسيرة الجبروت الإنساني ، فيرزح بها في أغلال التناقضات ويؤرخ بها لموتها حين يقيم علاقات ذات إيحاء عاطفي وعقلي سلبين ، مع واحدة من مفرداتها ، فتعود تلك المفردة ذكرى مقيتة أُجبرت على تحمل شذوذ السلوك الإنساني .
ومن تلك الطرائق العلمية لقتل اللغة – إن صح التعبير- أن نشتق من العربية  ما يصير سمة دائمة لانحرافات فكرية تصل حد الطعن في العقيدة ، ما يثير في وجدان المتعاملين مع هذه الأوصاف رفضا لاشعوريا للألفاظ الحاكية عنها . ولعلنا نقرب المثل  حين نستشعر من أنفسنا الوقع المضطرب الذي تحدثه مفردات من مثل: المرجئة ، المعتزلة ، الخوارج ، القدرية ، البدعة ..إلخ ، ذلك أن التاريخ الممتد لفعل هذه الألفاظ في زمانها ، لم تطهّره بعض الأفكار النيرة التي خرجت من مشاحنات طبقات المجتمع ، فأصبحت بكل ما فيها وبما تمثله ، لمزة جهنمية في الذائقة والذاكرة العربية المسلمة .
وإن صح أن نجمع كل السقوط الفكري والمجتمعي وحتى السياسي بما يلخص تاريخ البشرية ؛ فإننا لا نخرج عن أدق من وصف " التطرف" ، ففي كل مجال وعبر كل ثقافة وفي كل شريعة ، وجد التطرف من يحمل أسلحته ويذود عن ركامه ، ومع أننا نؤمن بهذه القاعدة ، غير أن كلمة التطرف اليوم صارت قسرية على ما يشوب الإسلام من فهم مشوب بالضبابية . وهكذا صار لهذا اللفظ بُعده الديني الذي يحلقه بما سبق ، دون تحديد معنى التطرف وأشكاله بوجه عام في التاريخ الإنساني ، ودون كذلك أن نتكلف تحديد معيار التطرف ونقيضه ..فماهو نقيض التطرف ؟؟! سؤال لم يجد جوابا بعد !
ولو قُدِّر لأحد أن يعيش مائة عام قادمة ، ثم طُلب منه أن يصف أيامنا المعاصرة ، فإنه لن يجد أصدق من وصف " التطرف" شعارا لمرحلة باتت تتراكم عقودا وعقودا من أعمارنا العربية .
فالتطرف في الفقر يقابله تطرف في الغنى ، والتطرف في العبث واللهو والمجون ، يقابله تطرف في التزمت والتدين الذي في جوهره رفض سلبي لعواصف الإغراء القادمة من كل أرض عربية ، كما أن التطرف في الاستبداد يقابله تطرف في الفوضى الشعبية ، والتطرف في المديونية يقابله تطرف في الاستهلاك ، والتطرف في تجارة التعليم يقابله تطرف في ازدياد معدلات الأمية ، والتطرف في متابعة ما هبّ ودبّ من الإعلام يقابله تطرف في إهدار قيم الثقافة والأصالة ، حتى غزا التطرف حياتنا اليومية ، فالتطرف في الإقبال على المنتجات الغذائية الجاهزة في كل شارع وحي ، يقابله تطرف في تدمير العادات الغذائية المتوارثة عبر قرون في منطقة هي من أكثر مناطق العالم صحة وعافية ، وهناك التطرف في بعثرة الوقت وقتله في مقابلة التطرف في عدد القنوات الفضائية الممجوجة عقلا وعرفا ودينا ...إلخ ، وفي حياة كل منا لابد وأن يجد يدا للتطرف باتت سيطرتها تستحكم على معاشنا وواقعنا .
إن التطرف لا يناقضه "الوسطية" ، ففد مارسنا التطرف حتى في فهمنا للوسطية ، فالوسطية ليس الوسط بين نقيضين ، ولكنها في أصح معانيها ، الكمال والاستواء والعلو الدائم ، لذلك كانت هذه الأمة الوسط ، ولذلك قالت العربية عن أثمن وصفها : أنه واسطة العقد . فمعاني الجمال والرشد والتعالي التي تحيط بلفظ الوسطية ، تجعله خارجا من معادلات القيم العددية التي نصر على ضخها لتصحيح المتراجحات التي نرزح تحت تذبذبها . لذلك فلا عجب أن نشمئز من لفظ التطرف حينا من الدهر ، ولكن العجب كل العجب أننا إلى اليوم لم نتجه إلى دراسة الوسطية كواسطة معاشية ارتقائية ، لا كعامل أكسدة لقتل شذوذ التطرف .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )