النساء ذوات الفكر الـ...؟!

      في اعتقادي أن حاجتنا اليوم إلى نشاط لغوي يفجر مفردات جديدة في اللغة العربية يعتبر أولوية مصيرية لتشكيل أدوات لفهم الواقع الذي نعيشه وتشخيصه ومن ثم تحديد قرار التجاوز من عدمه ! خذ مثلا على ذلك ، أزمة "المفهوم بداهة" التي يرمي بها المصطلحُ العقلَ حين يطرق سمعه جملة من الكلمات تشكل اليوم مسرح التجاذب الثقافي والسياسي والأخلاقي ، حتى لكأنها من كثرة تنقيحها وبسطها عادت ، أي الكلمات، محكمة الاستغلاق على وعي المتعامل بها ، فصار الكاتب رويدا رويدا  في حيرة من طرحها أو الاستعانة بها في سطوره . وهذا حقيقة ما أقع فيه الآن في كتابة هذه التدوينة ، لذلك لا أجد أمامي سوى أن أسهب في الشرح وكأن المصطلح ما عاد يحقق هدفه من الإجمال والوصول إلى فصل الحقيقة ، بمعنى أننا صرنا في حرج من قاعدة ( تسمية الأشياء بأسمائها ) ، لأن هذه الأسماء صارت أقنعة مزيفة حين ذابت عن الأشياء معانيها الكامنة فيها ، فالاسم يوضع للمسمى ، فإذا عدم المسمى كان وجود الاسم ضربا من التنجيم والعبثية .
   منذ انطلقت الثورات العربية، مع الاحتراز الشديد تجاه التوصيف بمصطلح الثورات ، ظهرت في الميدان النسوي أصوات عالية النبرة اختلفت في أوطانها ولكنها توحدت في توجهاتها ، وإن كان بعضها معروفا قبل الثورات بالتوجه العلماني المنادي بفصل كل الحياة عن الدين وليس الحكم فحسب ، إلا أن أصوات أخرى كان من المستغرب أن تجد لها كل هذا العنفوان مع الأخذ بعين الاعتبار أن الظهور في حد ذاته ينافي توجهاتها العقدية، ونقصد هنا تحديدا الصوت الكنسي أو تواجد الراهبات الإعلامي ،وكأن الراهبات قد تخلين عن رداء العزلة والزهادة وأصبحت لهن المنابر التي يخطبن عبرها في تقرير مصير الأمة ! ونحن لا ننكر أن يكون لأصحاب الأفكار مساحتهم في عرض ما يؤمنون به لأنهم أصحاب الأرض كذلك ، ولأن ميزان دفع الفكر هو الفكر فقط ، ولكن الوقت الحالي ليس خالي البال ليتسع لمزيد من الفوضى والارتباك فوق ما يعيشه العقل العربي الذي انقسم على نفسه في كل قطر عربي شرذمات لا تشدّها قاعدة واحدة ولا حتى الوطنية الجامعة ! ولا حاجة لنا لتكرار تقرير مبدأ احترام الديانات وأتباعها فهذا بالنسبة لنا ، كمسلمين، مسلّمات عقدية لا مجال لإعلان براءتها كلما أردنا مناقشة ما يستجد من ظواهر تحتاج لمزيد من التحقيق فيها ، خاصة وأن أوقات الأزمات في عالم لا يمنحنا كأمة عربية ومسلمة الفسحة والحرية لاتخاذ القرار الذاتي ؛ هذه الأزمات هي المنعطفات حيث تتشكل عندها رؤى ، هي جديدة نعم ولكن ليس بالضرورة أنها سليمة .
      في خضم هذا التقاطر النسائي ، نبحث عن صاحبات الفكر المسلم فلا نجدهن ، لا نقول أن الإعلام لا يلقي عليهن اعتبارا ، بل إننا حقا لا نسمع لهن تأثيرا في واقع التغيرات الذي تعيشه مجتمعاتهن ، وكأن كل الحديث فيما سبق الثورات ، عن مكانة المرأة في الإسلام وكفاءتها المطلقة في ممارسة حق النصح وترشيد الرأي في مجتمعها ، كل ذلك الكلام قد تبدد على قاعدة المواجهات العنيفة ، اجتماعيا وفكريا وسياسيا  اليوم ، وحتى لا نبخس  أحد حقه، فإن الأطروحات التي تقدمها الداعيات أو الكاتبات أو الفقيهات ، لا تخرج عن دائرة الحديث عن أحكام الحلال والحرام أو دعوة الآخر ، هذا الآخر غير الملحوظ في اللحظة الراهنة ! وكأن إعداد المرأة المسلمة فيما سبق من عقود لم يتطرق لتربيتها لتكون على خط التماس مع الأفكار و التغيرات القدرية التي لاوبد أن تباغت المجتمعات في سيرها الطويل أيام هذه الدنيا .
     أما إشكالية المصطلح الذي أقصده في هذا العرض ، فهو إطلاق لقب "المسلمة" على تلك الثلة النسائية المقصودة بالطرح ، لأننا لا نستطيع أن نخرج من الإسلام من أظهر الإسلام وإن كانت شعاراته مخالفة لما عليه الإسلام ، إذ غالب من يتحدثن من الخط المضاد ،سواء كان يساريا علمانيا أو دينيا متشددا ، يحتفظن بالهوية الإسلامية الجامعة ، كما أن إطلاق لقب "المسلمة" كذلك يوحي بإثارة العنصريات الدينية في مجتمعاتنا العربية التي من ميزاتها تعددية النسيج المجتمعي مما يجعله علامة بارزة في بنائها الحضاري على طول التاريخ . فإذا ما أردت أن أطعّم اللقب بآخر أكثر تحديدا ، من مثل : المسلمة ذات الفكر الملتزم ، أو الرشيد أو الأصولي  أو الإسلامي ونحو ذلك، سنقع كذلك في خضم ضبابية تستبيح كل هذه المصطلحات التي صارت أزمة في تعاطينا مع الأسلمة المعاصرة .
     إن طاقة الخروج الوحيدة من هذه الحيرة اللغوية  يكمن في مطالبة تلك الشريحة النسوية التي تتخذ من تطبيق الإسلام في حياتها، جملة وتفصيلا،و شعارا وواقعا ؛ أن تنهض  بواجبها تجاه مجتمعاتها بأفق مفتوح وقلب شجاع مستعينة بأطروحات الإسلام وحلوله ذات المبادرة ، ومع تراكم عملها وجهادها في هذا المجال سيخرج لها مصطلها الذي يوافقها ، أي ستخرج لغتها الخاصة من رحم حيويتها ، وحينها ستفرض هي الاسم والمسمى وكل اشتقاق اللغة ، وهذا هو الأصل في توليد المصطلحات .. أن تنبع من الحياة لا من الركود ، ومن الفاعلية لا من الخمول، من المواقف لا من التخاذل.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )