التاريخ غير المكتوب (1)

Man!


( 1 )
التاريخ غير المكتوب هو الإنسان !
وتحديدا الإنسان العربي ...
وعموما الإنسان المسلم ...
وإجمالا الإنسان ..!!
عندما نتصفح كل كتب التاريخ سواء في الشرق أو في الغرب ، قديما وحديثا ، نجد أن العنصر الناقص من معادلة كتابة التاريخ هو الإنسان ، هذا الإنسان الذي يتحول في تدوين التاريخ إلى أعداد القتلى ، وإلى ذكر مجهول في تحديد السنوات ، وإلى جندي غائب في الجيوش الجرارة ، وإلى مستباح العرض والنفس والمال في الهزائم .. وإلى  كل ماهو متروك ومُغيَّب ومسكوت عنه ...ثم يقال لنا هذا هو تاريخ الإنسان !؟
لم نقرأ في كتب التاريخ قولا مأثورا عن إنسان المجتمع ، إنسان المجتمع هو ذلك البسيط الذي تطوي أحلامه مصارعات الساسة ، وتنكمش طموحاته في تحليل أهل المال والأعمال، وتتبدد نواياه الحسنة عند المحققين والعاملين في الأمن والحكومة في كل العصور ...
هل لنا أن نترك هذه الجريمة ناشرة أضغاثها دون ردع في أقلام من يكتبون التاريخ ؟؟
--------------------------
ثم لنتوقف لحظة تأمل : من يكتب التاريخ ؟؟
هل يكتب التاريخ  السياسي أو العسكري المنتصر ؟ أي نوع من النصر هذا الذي يموت فيه كل الجنود ليبقى اسم القائد والموقعة وحده الباقي على صفحات التاريخ ! هل نحتفي بنصر ضرّجه مجهول بدمه، وعليه أن يظل مجهولا ، بل أن يحمد الله أنه مجهول ! هل هذه هي العدالة والمساواة الاجتماعية !
هل يكتب التاريخ إعلامي نشط في الكذب والافتراء إرضاء للسلطة أو لتصفية حسابات أطراف لا يعلم إلا الله مدى تورطه في السعي وراء المكسب والمنصب لديها ! هل يعقل أن تختفي من الإعلامي كل غرائزه وطموحاته ليصبح قديسا منزها عن الهوى ليكتب التاريخ ! ثم هل يحق للإعلامي الذي لا يرى في انسان المجتمع سوى صفة "الجماهير"، بكل ما تشي به هذه الكلمة من احتقار وازدراء وبما تمثله من وصف لفئات هي بالأنعام أقرب ، حيث تسوقها انفعالاتها وغرائزها لا قوى التفكير والمعرفة ، هل يحق لمن يطلق هذا الوصف ظاهرا أو يعتقده باطنا، أن يكتب تاريخ هذا الإنسان الجمهور!!
هل يكتب التاريخ الأعداء لأن كل عين صديق لابد وهي ممالِئة ومنافقة في حين أن العدو وحده الصادق في معادلة عالمية أكبر وظائفها أن تصنع "عدوا" ولو كان طواحين الهواء أو صور المرايا ؟! هل على الإنسان أن يفقد كل ثقته بنفسه ويسلم عقله لعدوه ليغتاله بكتابة تاريخ لا يصور هذا الإنسان إلا ضعيفا منكسرا ، أو متعصبا أهوجا ، أو في أحسن أحواله بدائيا متوحشا لا تسوسه الحضارة ولا يعرف الترقي إلا بتنشيط من عامل خارجي هو العدو والمحتل والغازي !؟
----------------------
لم نقرأ في كتب التاريخ عن :
الفلاح : أحلامه وآلامه وحواراته و وصيته لأهله
الموظف في كل الميادين : ما تأثيرات الغلاء عليه وكيف استسلم أو رضي بهذا الحكم أو ذاك.وكيف كانت التحولات الاجتماعية تنعكس عليه في مهارات سوق العمل أو مستوى معيشته .
المعلم والمربي : كيف كان يعلّم وهو مزدوج النظرة إلى الحياة ، فحوله تغيرات كبرى أو ظلم مستفحل أو ثراء مطغي ، ومع ذلك عليه أن يقول للطلاب : اثبتوا على الأخلاق والعلم فهما أغلى المنح !
الأم : رحم التاريخ ، كيف سارت بها الأيام ما بين شدّ وجذب تحملت فيه المد والجزر في عائلتها ومجتمعها ، وهي التي عليها منذ أول الخلق أن تمتص السلبيات وتحيلها بقدرتها العجائبية إلى إيجابيات أو على أقل تقدير أو تلونها بألوان أخرى غير السواد ليظل للحياة نشوة التكاثر والوجود.
الطالب والتلميذ : متى يخرج من بيته وكيف يحصل على موارده التعليمية، وكيف يتأثر بتغير مناهج التعليم إرضاء للسلطات المختلفة في المجتمع ،وكيف ينال حقه في التعليم أو لماذا يُحرم منه أحيانا؟ ماذا كان ينتظر من مجتمعه إذا دخل مضمار العمل ، ماذا تحقق من أحلام الطفولة والتلمذة وماذا اندثر وتلاشى على سيف الواقع والواقعية .
الأب المحزون والمكروب والمفتت وراء تأمينات السعادة التي كثيرا ما تكلفه مالا وعمرا وعطاء لا يحق له أن يتوقف وينبغي ألا يتوقف . كيف ينال حقوقه في المواطنة ، وكيف يظل يردد أن القادم سيكون أفضل !
البائع : كيف يستقبل تقلبات السوق وانهيار الدول وإعادة انتشائها ، كيف يظل قادرا على توليد المزيد من السلع والأموال وفق نظرياته الخاصة ، هل انكسر مرة أو ربما مرات ؟ كيف عاد ونهض أم أنه استسلم وأنهى حياته !
الكاتب : من كل ميدان الذي يتخذ من الكتابة متنفسا في المجتمع أو تدوينا للأحداث أو بسطا للمعرفة أو ترقية في مدارج السلطان . هل نال قسطه الوافر من الحرية ليكتب ما يريد كيفما يريد ، هل مورست عليه ضغوط خفية أو جلية خلال تسجيله وتأطيره وتحليله لما يحدث حوله وما يناله هو بالذات . هل استطاع أن يظل شريفا أم أن عوامل التعرية قد نالت من كرامته وكبريائه بل وربما من أمانته وأخلاقياته .ماذا كان يود أن يكتب أكثر مما كتب ولكنه تخاذل عن تسطيره ، ماذا لو أنه في عالمنا اليوم حيث الكل يتكلم والكل يكتب والنتيجة.. صفرا !!
-----------------------
لكل هؤلاء الذين لم يكتب عنهم التاريخ ، لأنهم لم يكتبوا عن أنفسهم ، نكتب نحن !
نكتب كي لا نكون مطوين تحت أقلام المؤرخين ...
نكتب كي نورث من بعدنا حياة كانت لنا، فلهم أن يقبلوا الميراث أو يتصدقوا به ...
نكتب كي نستشفي بهمومنا وتبرأ هي بنا فلا يعود للغضب والحسرة وقعا كظيما في صدورنا ...
نكتب كي نعلن شهادتنا أمام الله وأمام التاريخ ، أنا برآء من كل ما يعبد من دون الله من هوى أو حزبية أو عسكرية أو اقتصادية أو عبثية ، لا نريد أن نكون ضمن حساباتها ولا أن تجبر ألستنا على الهوس بأبجدياتها ، فنحن نكون من نريد أن نكون نحن ، ولسنا صورا مستنسخة ولا تعليقات ساخرة ولا مبيعات تسويقية ...على الأقل من وجهة نظرنا !
نكتب كي لا نحسب مجرد أتباع مهوسين على مواقع التواصل الاجتماعي، وكي لا ندرج في الأكثر مبيعا على قوائم الشراء، ولا الأعظم شراهة على قوائم المستهلكين في خدمات العملاء ...
----------------------
هذا التاريخ غير المكتوب هو الإنسان ..
بكل ضعفه وألمه وتناقضاته ..
بكل طموحه وآماله وتطلعاته ..
بكل صفائه وخطيئته وقلبه وروحه وعقله ..
بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون ..
بكل حبّه وتمرده وغضبه ومفاجأته ..
ربما ستأتي السطور ناقصة نوعا ما ... لابأس فما في الإنسان إلا ناقص
ربما ستأتي الكلمات مشعثة شوهاء ... لاحرج فما الإنسان إلا تجربة وجود
ربما ستأتي الحروف من أبجدية مبتورة ... لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
المهم أن يأتي الإنسان بكلّه، وأن يكتب تاريخه بنفسه ، التاريخ الصادق هو تاريخ كل المعاني ..وقد آن لنا أن نتعلم كيف نكتب تاريخ الإنسان .
 يتبع...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )