التاريخ غير المكتوب (2)

The Art of Social Media
https://www.flickr.com/photos/mkhmarketing/8468788107


( 2 )
الخدعة الاجتماعية


قد يقال أن التاريخ ليس من مهمته كتابة كل ما يجري ولكنه يسجل أهم ما يجري ! وفي إطار هذه الأهمية تتدرج الرتب ، فالقائد يكتب عنه لأنه يصنع الحدث أو الحدث يصنعه ، في حين أن العامة لا يمتلكون من الميزات النفسية والفكرية ما يمكنهم من تصدر مشاهد الحياة ، وأن يكونوا أصحاب القرار ...! ثم إنه من الأهمية بمكان كذلك الحديث عن الحروب والمعارك والهزائم لأنه يُترقب أن تنتظم الدروس المستفادة منها مع تراكم الزمن وزيادة الوعي ، وكما أن النصر يقوي العزيمة ، فإن الهزيمة تشد أزر العقل ، وبين الإرادة والحكمة يخرج التاريخ .. أقوى تاريخ . هذه هي النظرة الأولى لكتابة التاريخ ، وأقصد بها النظرة التي تربينا عليها على الأقل على مدى الخمسين عاما الماضية ، والسؤال الذي نطرحه اليوم : هل ماتزال هذه النظرة قائمة على قوتها في عصر صار "الناس"هم لسان وفعل التغيير ! ألسنا في عصر الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي التي أفقدت كل السلطات فاعليتها ، بل وجعلتها رهينة قبول الرأي العام الاستقصائي على صفحات توتير وفيسبوك ويوتيوب وغيرها ؟!
لاشك أن هذين المشهدين هما بعضا من المشاهد التي سيتكاثر ورودها في كتابة تاريخنا ، تاريخنا المعاصر الذي أبرز سيمائه "التناقض" ، إنه تاريخ المتناقضات الصارخة ، حتى إن الاتزان ليفقد شرعة وجوده تحت ضغط إيجاد الحلول الوسط بين أقاصٍ ترفض أن ترى اتجاهات أخرى في الحياة غير (ضد) أو ( مع) .
في وجهة نظر شخصية ، لا ألزم بها أحدا ، فإني أفضل تسمية النظرية القائمة عليها مواقع التواصل الاجتماعي بـ"الخدعة الاجتماعية" ، والسبب أن هذه المواقع أنشأت صورة للمجتمع على النقيض تماما من أصول نشأة المجتمعات الإنسانية الصحيحة ، والتي شهدها التاريخ منذ تسجيل حالة أول مجتمع إنساني ، ومن جهة أخرى فإن هذه المواقع هي في جورها تحطيم لقوى المجتمع والاجتماعية والمجتمعية وكل المشتقات التي ترمز إلى حالة من التعايش والانسجام بين شرائح إنسانية متعددة الميول والرغبات والحاجات ، ولكنها بحكم تواجدها على أرض واحدة وتشاركها مصير واحد ، لابد لها وأن تخترع أصولا للتعايش ولغة مشتركة وروابط للتوفيق بين مصالحها ، بل إنها في مراحل التجربة والخطأ تصل إلى الصورة الأمثل وهي توحيد الغاية وإن اختلفت الوسائل ، وهذا مالا يتحقق في مواقع التواصل الاجتماعي لذلك أطلقت عليها وصف " الخدعة الاجتماعية " .
إن أولى نواة المجتمعات الإنسانية هي أنها قائمة على أرض تتلاءم في طبيعتها مع الإنسان ككائن يجتمع فيه عنصري الفعل والقوة ، بمعنى أنه يكتنز في داخله قدرات تمثل قوى ، يحتاج لإخراجها في صورة فعل ، حتى تُستدام له حيويته . وهذه الأرض لابد أن يلمس فيها الإنسان عنصر الاستقرار والقرار والمقر كي تشكّل له محضنا تنمو فيه قدراته وتثمر أفعاله ، وغير خاف أن لاشيء من ذلك يتوفر عليها طبيعة الإنترنت بشكل عام  . الواقع على شبكة الإنترنت هو واقع "افتراضي" ، أي أن طرفا ما يقوم ببناء هذا الواقع ثم يجبر المستخدمين على الولوج فيه بكل ما يحمله من "شخصانية" هذا العالم ، والعجيب أن ترويج هذا العالم يتم ارتكازا على مبادئ براقة ، كالديموقراطية والحرية والمساواة ، في حين أن شيئا من ذلك غير حقيقي! لأن أدوات بناء هذا العالم إنما يتحكم بها جهة واحدة أو جهات احتكارية هي سلطة هذه المواقع المنشئة والمصممة لها ، وعلى الجميع أن يعيش قوانين هذا العالم لا قوانينه هو الذاتية ، وأن يسبح في خياله وفق المحيط الضيق الذي تمنحه ضرورة هذه الأدوات المتوفرة في هذه المواقع ، أي أن الخدعة الأولى على مواقع التواصل الاجتماعي ، أنها تروج لحرية مزيفة أو بتعبير أدق ، أنها تنشر مفهوما غرائبيا للحرية ، حرية مقيدة ، أوحرية مشروطة ، وهي مصطلحات يناقض أولها آخرها في عالم ضبابي قائم على "المطلق" في كل شيء وليس على القيود ، فإما أن يحترم هذه العالم كل قوانيه أصالة أو أن يكف عن الكذب على مواطنيه ويواجه عوراته كاملة .
                                        يتبع ....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )