أرملة الزمن الماضي ( قصة قصيرة)

Castelo de S. Jorge
https://www.flickr.com/photos/alfarroba/13788622185/


اليوم تكمل الثورة عامها العاشر .. تحول الميدان الكبير إلى ذكرى مجيدة تؤرِّخ للحظة التحرر ، أبقت الحكومات المتعاقبة كل شيء على حاله لتظل الأجيال الجديدة تلتقط المشهد وتعيش اللحظة بحيويتها !!
 تغيَّر اسم الميدان الكبير إلى ميدان "الشهيد الحر" .. تُركت بقايا الأغلال التي كانت تكبِّل الجسد على ذات الخشبة ..حتى آثار نعال الشعب حين ثاروا على القتلة مازالت في مكانها أو ألصقت في موضعها ... وماضي ورود وزهور زينت موضع الإعدام وقد استحالت حاضر أغصان جافة ..

شيء واحد اختفى من أبهة الحفل ؟! إنه هو ( رائد) الشهيد الحر !! وُوري الثرى في مقبرة الدولة الرسمية ، وخلفه على المقصلة لوح حجري كبير يحكي قصة انبعاث الحياة في البلد الميت ، ويروي أحدوثة النور حين شق حندس الظلام الكئيب ..
هاهي الشمس تغيب خلف ستار مأتم يوم راحل ، تنفث بكل قوتها نهاية رمق لعمر مضى من توهجها ، فزهى في الأفق متلاطم الاتجاهات والألوان !! 
حمرته رجع صدى دماء ترفض النسيان ... صفرته رفرفة وجود تضطرم به الأرحام ... تدرجات أشعته تراقص أجيال تدغدغ مراحل الحياة طفولة وشبابا .. 
وبالنسبة لها كانت نهايات الشفق وهي تتلاشى وتذوب في دافور ليل قادم تجاوب في روحها تراتيل عابقة : .. العمر ، الفقد ، الانتقام ، الرجل .. الياسمين !!

كثيرا ما كانت تضجر من حوارات صديقتها العتيقة وكلمتها التي تئد الوفاء المقدس في عزمها :
( لابد من ارتباط جديد يخفف عنك حضور رائد الدائم في وعيك !!) .. 
كان في داخلها يقين راسخ بأن وجودها قد انتهى عندما فارق هو الحياة على المقصلة !! ودَّع الحياة جسدا وودَّعتها معه روحا وعقلا ..
******************************
إنه يوم الجمعة الموعد المحدد للزيارة المعتادة لميدان الشهيد الحي ، حيث تعيد غربلة الماضي وتظل في صلوات رحمة ودعاء حتى غروب الشمس .. تستمطر الذكريات حينا ، وتهرف بالأمل حينا آخر ..
ولكن المقعد كان شاغلا هذه المرة !! رجل وامرأة في خضرة الربيع السندسية يتعانق الأمل والمستقبل في بريق عينيهما ، والكون يفشي سره في حياة جديدة آن لها أن تترجل من العدم ...
دون مهلة من فكرة وجدت نفسها تشق جدار الصمت ، وتبعث لهما ببرقية كتبتها على بتلة ورد ربيعية ، متعثرة السطور ولكنها متقدة الحب : ( منظركما الجميل أثار أمنياتي لكما بالسعادة والذرية الطيبة ، رجائي إن رزقكما الله ولدا أن تسمياه رائد ، وإن رزقكما بنتا أن تسمياها منار إنكم بذلك تنعمون علينا بجميل جزيل.. شكرا للفرح فيكما ) !!
لم تنتظر كثيرا فقد شعرت أن وجودها قد استفرغ حقه في الميدان ، ولكن اليوم مازال في أوله ..أشرعت وجهتها تجاه بيت الجدة ، وفي سيرها عبر تلال القرية كانت تملأ رئتيها بالهواء وتهرول كطفلة يتفجر الرِّي في جوانبها تارة ، وأخرى تتوقر في مشيتها بثبات المناضلة ، وتارات تتعاطف في دَلِّ المرأة مع مشهد زفافها ...
( الزفاف ) تذكر ذلك اليوم حين خرجت مع جدتها بأغصان الياسمين لتزيين بيت إحدى عرائس القرية ، كان تقليدا محببا لكل عروس : أن يزدان البيت بالياسمين في داخله وخارجه تمثيلا لثوب الزفاف ...كم حلمت طويلا أن يكون لها ذلك البيت العابق بالياسمين ..!!
وصلت إلى بيت الجدة وأثناء معالجتها للقفل القديم رمت نظرها إلى الجوار ( إنه بيت زُيِّن بالياسمين في شرفاته على سطحه .. إنه بيت عروس .. الفأل الطيب والعادة القديمة !!) 
..تمنت لهما السعادة وضحكت ، ثم دخلت البيت .
-------------------------

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )