التاريخ غير المكتوب ( 3 )



(3)
خذلان جماعي
   كنت أتحاشى في أي مقالة؛ العودة إلى الماضي مهما كان قريبا ، بل وكذلك أن أترك الاستشهاد بالحاضر مهما كان مأساويا أو مشرقا ، ولعل هذا يعود إلى الرغبة في "التجاوز" ، تجاوز السوداوية واللطم والعويل الذي يلازم حديثنا العربي ، وخروجا من فوبيا جلد الذات لأنها دمرت الشجاعة في النفسية العربية والمسلمة ، حتى ما عاد العربي قادرا على أن يخرج من تقمص الفشل والانحدار الذي يبث سمومه في بصيرته صباح مساء على القنوات الإعلامية ، التي اتضح أن أكبر همّها أن تقتات على العقل العربي لا أن تبنيه ، وأن تحصد حظوات مشبوهة على حساب تاريخ الأمة والمراهنة على وجودها الحرّ لا الوجود التبعي .
ولكن لا مفر وهذه السلسلة من المقالات تتحدث عن التاريخ أن نبسط أكثر في الصراحة ،وأن نتزود ببعض السوداوية المتجذرة في رؤيتنا للأمور والأحداث ، خاصة لو أردنا لهذه السطور أن تكون جزءا من تاريخ قادم ، يكون فيه للإنسان العربي بعض القول في صناعته بدل من أن يصنعه "الغير" ، والغير هنا لا نقصد بها "الآخر" ! بمعنى أكثر تبيانا ، هذا الغير أو الآخر ، ليس العدو وحده ، بل إننا أمام أقلام جديدة في كتابة التاريخ ، فبعد أقلام الأعداء وأقلام الساسة ، تظهر أقلام أسياد المال ورؤوس الاقتصاد التي تحرك الفرد العربي ميولا وفكرا ، لتمرر من خلال استهلاكيته إطارا فكريا يحدد لهذا العربي نظرته لنفسه ولموقعه من السياق التاريخي ... لربما نستقيض بذلك في مقالات قادمة .
أما هنا فإني لا أجدني إلا في أسر لحظة المرار والخذلان الذي يجلل العين العربية والمسلمة ، حين يصفرُّ الواقع الراهن من أي صوت لشخصيات عربية مسلمة يكون لها من الأثر في توحيد الأمة وتفنيد الأفكار العبثية التي تضرب على وعيها . فأين كل الدعاة والمصلحين عما يجري الآن في تغيرات جذرية في واقع العربي والمسلم ؟! الحقيقة أن الساحة خلو تماما من ذلك الصوت الذي نحن أحوج ما نكون إليه الآن . لماذا ننتظر حتى تمر الأزمات ثم نسمع عن تصدر أسماء تجد من الراحة مرتعا خصبا لها في حين تتخاذل أوقات الأزمات المصيرية !؟ لا نريد من يعلمنا آداب هامشية في ديننا ، ثم يصمت حين يتعلق الأمر بهدر دماء المسلمين والعبث بأوطانهم ؟ ! لماذا أصبحت مفردات من نحو " الوطن" ، "الوطنية" ، "الأرض"، "المجتمع"، "الوحدة" ...إلخ ، وغيرها؛  مفردات مجرَّمة نجح الدعاة الجدد في محوها من الذاكرة العربية دون أن يودعوا مكانها مصطلحات تحمي الأوطان وتشد من لحمة المجتمعات فيها !؟ .
للأسف أن الأصوات "الإسلامية" ، قد انقسمت بعد الثورات ورضيت أن تكون أطرافا في معادلات سياسية عاجلة ، ونسيت أو تناست ، أن الهمّ الحقيقي يجب أن يكون عاما لا إقليميا ولا قطريا ، فالدعاة اليوم إما "ضد" أو "مع" ، ضد "النظام" أو مع "المعارضة" ، هذه المعادلة التي يتم فيها نفي كل بُعد ثالث يبحث عن السلام والاجتماع والمصالحة ، وكأن مناظر الدماء لم تعد تثير أكثر من فتات الخبز على موائد الأقوياء يُرمى بها للضعفاء  في حملات التبرعات والبكائيات المنافقة !
نجد المسيحين يعيدون مصطلحات "مسيحيو الشرق" ، ويعملون بمنهجية الوطنية ،أيا كانت النوايا ، على حفظ الإرث التاريخي لمنطقتنا العربية ، في الوقت الذي يتناوش بالمصلحين المسلمين السياسات العقيمة وينشغلون بتتبع هذا الفريق أو ذاك في المحاكمات السياسية المضللة !؟
لماذا نفتقد اليوم العالِم المسلم الذي لا يبحث عن حظوة ولا ينبري في أي اتجاه سياسي ، وإنما يخاطب الأمة كلها بخطاب الإسلام المبرئ من الحزبية والإقصاء !؟ متى سيظهر هؤلاء القادة ذوي الأفكار الرؤيوية إضافة إلى ما يحملونه من شهادات التخصص في العلوم الإسلامية ..؟ هل من الصعب أن نجد فقيها مفكرا ؟ أم أن هذين اللقبين لا يجتمعان في مساحة الإسلام التي وسعت من قبل ابن سينا وابن تيمية ؟!
لقد ظهر على حين غفلة من خطاب إسلامي ناضج ، ما يسمى "بالدعاة الجدد" ، وقتها كنت أحمل الكثير من الشك في مصطلح يراد منه نسف الدعوة الإسلامية من جوهرها ، ورمي إرث ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام أدراج النسيان ، وكأن الدعوة الحقيقية الجادة والمتطورة إنما ولدت على ألسنة هؤلاء الدعاة الجدد ، وكم عجبت كيف رضوا هم على أنفسهم مثل هذا اللقب !؟ أين هم الآن بعد كل ما أحدثوه من ضجيج في المشهد الإسلامي ؟ لا داعي لكثير التساؤل فإن صورهم التي تصدرت الأخبار تجيب على الأسئلة وهي تحرك النبوءة القديمة والتوقع السابق الذي طالما كان واضحا ولكنا رضينا أن نتغاضى عنه . إن هذا الاتجاه الدعوي الحديث لم يؤسس فكرا راسخا في نفوس الشعوب الإسلامية ، ولم يزرع علما مثمرا في عقول الناس ، كان كل الأمر منصب على إثارة العواطف المتناقضة و"تسطيح" الفكر  ، واستطالة كل قصير اللسان على تصدر الواجهة الإسلامية ليصبح"نجما" دعويا ، وما أغرب حقيقة هذا المصطلح الذي قرأت عنه وسمعته من بعض من يرون أنفسهم قادة الإعلام الإسلامي ، وهو أن لديهم مهمة شريفة تتمثل في صنع " نجوم دعوية" ! وهل في ديننا كل هذه الضبابية أم أنه فاقد للجاذبية أم غارق في العبيثية  ليتم تسويق نجوم في الدعوة إليه  على شاكلة نجوم برامج الهواة  والغناء ؟! لقد انحاز الاتجاه الدعوي الحديث بأطيافه ورموزه إلى جهات سياسية كانوا أغنى عن الغرق في متاهاتها ، إما رغبة أو رهبة ، ولكن يبدو أنهم هم أنفسهم كانوا على شفير من الفكر والرؤية في نظرتههم إلى الإسلام ، فتارة هم أصحاب مشاريع تجارية يتم تسويقها من خلال برامجهم الأكثر متابعة ، وتارة هم نشطاء حقوق الإنسان لجمع أكبر قدر من الدعم والتبرعات للقضايا التي يروجون لها ، وتارة هم من خبراء التنمية والبشرية وتطوير الأعمال ! وهكذا لم يعد من السهل توصيف هؤلاء الدعاة الجدد في خانة محددة ، بل على العكس من الممكن أن يصطفوا في كل الخانات إلا في خانة "الدعوة الإسلامية" !.
لقد تعبنا وتعبّئنا عمرا كاملا من نظريات المؤامرة ، وصراحة أننا ما زلنا نؤمن بها، فعلى سبيل المثال : نحن  نؤمن أن الهجمة الآن هي على الإسلام وتحديدا على الاتجاه السنّي في الإسلام ، ولكن من جهة أخرى ألا نساهم نحن كمسلمين في استشرار هذه المؤامرة عندما تخلو ساحتنا من أصوات تحمل همّ الإسلام بعيدا عن الارتزاق أو التسييس أو الإعلام!؟
حاجتنا الآن كبرى للإسلام ، لأن وحده الضامن للخروج من عتمات الطائفية والتغريبية والتغريرية والاستهلاكية ، كل هذه العناوين التي يتم تنشئة الفكر العربي والمسلم عليها من خلال قنوات عدة ، ومن خلال صبّ القوالب الجاهزة للإنسان العربي ، ولكن حتى يعود هذا الإسلام فإنه لابد من إيجاد دماء حقيقية ، ولا أقول جديدة،  تحمل الدعوة الإسلامية سلوكا وواقعا ، ومبادرات تحاول من خلال الفقه التشريعي والفكر الآفاقي،  وبما تقدمه من تضحيات بنفسها ، أن توقف سيل الانهيار الذي تتشعب أوديته على اتساع الخريطة العربية والمسلمة اليوم .

نرجو حقا أن نهضم التعايش مع شعور الخذلان الذي نشعر به ، ليس للاعتياد ، ولكن لتفجير قوى أكثر صدقا وعدلا تعيد للداعية المسلم هيبته حين تبرهن من ذاتها على أن أجمل مافي الإسلام أنه أقوى ما يكون وقت الأزمات ..لا على واجهات القنوات الفضائية فحسب!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )