الزمن المعدني

https://www.flickr.com/photos/avikbangalee/11025789716/


نعلم أن السنَن لها طابع الاطراد ، نعم قد تتخلف سنّة ما حينا من الدهر ، إما لاعوجاج مسيرة البشرية عنها، ثم ما تلبث أن تعود إليها حين يعاودها رشدها ، أو لأن السنّة الواحدة الكلية قد تتوالد عنها سنن فرعية ما تفتأ تحلّ محل الأصلية نظرا لطبيعة التحدد الذي يحكم الحياة ، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نرد السنّة الفرعية إلى أصولها الكلية لتظل الحياة الإنسانية مؤطرة ومنظمة وبعيدة عن العبثية مما يضمن تعايشها مع السنن الأمّ وهي السنن الكونية .
من هذه السنَن التي أثبتها التاريخ ، أنه لا مجال لقيام حضارة ما أو نجاح أي مجتمع في بناء مجده ، إلا بوجود مرجعية فكرية يرتكز عليها في هندسة وجوده ، و تشكل هذه المرجعية حاضنة للحضارة التي سينشأ من خلالها ، فمن المفترض ألا ينشأ مجتمع خارج الحضارة ، وإلا كان طفيليا على حضارة غيره . وقد اختارت أوروبا منذ اليونان أن تكون "الفلسفة" كعلم ومنهج هي الإطار الفكري الذي تتشعب فيه إبداعاتها ، والبوصلة التي تسير بها عبر طموحات القوة والمعرفة ، وبصرف النظر عن صلاحية هذه الفلسفة أوصواب ما أنتجته من أفكار وفلسفات أخرى، غير أن السنّة كانت تفرض نفسها حتى على أوروبا الحديثة حين اتخذت كذلك من تطور الفلسفة المعاصرة مرجعية تسترشد بها سواء أكانت هذه الفلسفة تعني رفض الدين بالكلية أو الثورة على الكنيسة كسلطة يتعاصر فيها الدين والسياسة . والحال نفسه حدث في أمة العرب ، فنزول القرآن قبل الشروع في بناء الدولة أو التخطيط لبناء المجتمع المسلم ، كان يشكّل الحاضنة الفكرية التي تشكّل منهاج جماعة من الناس رضيت أن تلتزم سلوك منضبطا بتعاليم القرآن وتعطي تربيتها لرسولها عليه الصلاة والسلام ، فلما آتت التربية الفكرية والنفسية ثمارها انطلقت مراحل تالية لتأسيس المجتمع ثم بناء الدولة على مدى زماني يقدر بنحو ثلاثة وعشرين سنة ، هي أعوام البعثة والرسالة .
والعّلة في ذلك واضحة ، فالمجتمعات البشرية تختلف بحكم تطور الإنسان عن غيره من المخلوقات بغريزة التعقل والشعور المتعالي ، مما يجعل بناء جماعته مختلف عن بناء الفصائل الأخرى في الممالك الحية ، حتى لو سلّمنا أن الإنسان قد أخطأ في مسيرة هذا البناء فطمّت الفوضى البرَّ والبحرَ في حين أن الممالك الحية الأخرى كانت أسلم وأثبت في معيشتها من الإنسان ! لأن سنّة الخلق الإنساني تظهر في أوجها عبر المحاولة والخطأ المقبولين والمغفورين ، فبدون بذل الجهد والمحاولة يتخلى الإنسان عن فرادة خلقه المتمثلة في العقل والإرادة والقدرة .
والمجتمع الإنساني ليس "عسكرية" بطش، وهو كذلك ليس "سياسية" دهاء ، بل هو وجود خارجي لأمثولات الفكر والروح والجسد الكامنة في كل فرد من أفراده ، وهذه الثلاثية الأصلية لا يتجاوب معها ولا يرسي التوازن بين ردهاتها إلا "الكتاب" المنهاج الذي يؤمن ويتحاكم به وإليه هذا المجتمع ، بما يحويه من حوارات وتعاليم وعِبر و خلاصات سعي أمم سابقة وأفكار أبدية يستوعبها المستقبل المتجدد لهذه الجماعة حين تتعمق تطلعاتها في إقامة مجتمعها الحاضن لهويتها .
ولما كان الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة ، سنّة عماد في حق هذه الأمة ولن تستطيع أن تقوم بغيرهما ، لأنهما ببساطة حويا طرقها الفكرية وعلاجاتها النفسية المنبثقة من ذاتها ، ولأن نجاح التجربة في العهد الأول يجعلها حجة على العهود التالية ، فإن أي تفكير في وراثة سلطوية أو مجتمعية تطرح عنها هذين المنبعين لن تكون إلا أخاديد ناتئة على وجه الوجود العربي والمسلم ، أخاديد تتراكم فيها المعايب المجتمعية والتشوهات الأخلاقية والانحرافات الفكرية ، حتى لتغرق الأمة كلها في تناقضات بين داخلها وخارجها ، مما يقدمه النتاج القائم الآن في واقعنا العربي والمسلم .
إلى هذا الحدّ ولا جديد تحمله السطور ، ولكن السؤال الذي يجدد هذا الطرح ، هو ذاته سؤال التجديد الذي سنظل بحاجة إليه كلما دخلنا مرحلة تاريخية تحكي لنا وجودا جديدا على دائرة تداول الأمم والأيام . القرآن والسنة هما محيط الدائرة وعلى الدائرة أن تملأ فراغاتها بالدراسات والاجتهادات والعلوم والمعارف بما يجدد رؤيتها للقرآن والسنّة ، ومشكلتنا اليوم أننا نريد أن نقيم مجتمع القرن الحادي والعشرين بما قامت عليه وسائل القرن الأول في صدر الإسلام ، وإذا فشلنا، وهذا طبيعي ومؤكد ، فإننا نحمّل الخطيئة على المرجعية الفكرية ، القرآن والسنة ، ولا نحمّلها أنفسنا لأننا تكلمنا بلغة غير لغة الواقع ، وتناهينا في أطروحات استحضرناها من الماضي لا صلة لها بالحاضر ولن يكون لها وقع في المستقبل . أن تحكم بأثر رجعي ، يعني أن تفكر وتتحدث وتكتب بظلال الرحلة نحو الوراء ، ولأن الإنسان لا يعود أدراجه مهما كان الماضي جميلا ، فالزمن خلْق لا يتكرر ، كذلك تكون العودة إلى ماضي التفكير نكسة نحو الفراغ لأن السؤال سيظل حائرا : لماذا نجحوا وفشلنا ؟
لن تنجح ثورة ليس له محضن فكري تنبت فيه جذورها
ولن يقوم مجتمع وهو خلو من أفكار تجاوب عقوله
ولن تستوي حضارة على سوقها حين تطرح الجمود الفكري أصالة لها
ولن يستطيع الإنسان أن يعيش وهو ينظر إلى الوراء ...لازمانا فحسب؛ بل أفكارا ولغة كذلك.
حين يبدأ التجديد يضخ مياهه في حياتنا الفكرية ، فنطرح المناهج والفلسفات والمذاهب لتحاكي سعة العقل وسماحة الحرية ونفع البشر و هدى المرجعية ، حينها نقول أننا قد كوّنا محضننا الخاص ولينطلق بعدها المجتمع ثم الدولة ، أما قبل ذلك فكل ما يحدث هو عبث وفوضى وثورة و هوَّة نتطامن فيها ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، وحينها نكون قد خرجنا عن السنن بالكلية .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )