أخوف ما نخاف من الثورات أن ...!؟ ( 4 )

( 4 )

أخوف ما نخاف من الثورات أن يصبح الشقاق والانقسام طبيعة متأصلة في تعاملات أفراد المجتمع الواحد، ليتحول حينها الشذوذ إلى قاعدة ، وبدل أن يكون الاجتماع على السعي نحو الارتقاء ، نصير تجمعا من الغبش والكذب والعداوة .
كان المشهد الظاهر في الثورات، احتشاد أطياف مختلفة من المجتمع الواحد ، فهناك التنوع بين الطبقات والفئات والخلفيات الاجتماعية والثقافية و الاقتصادية ، حتى ليخيل إلى الناظر العجِل أن الثورات في الميادين ترسم صورة مجتمع قادم يحمل توجها موحدا ويعرِّف عنه نفسه بوجه متجانس القسمات ... ولكن هل كانت هذه هي النظرة عن قرب ؟
إن الانقسام والشقاق كان حاضرا في كل تلك الجموع ، بل لعل الثورات – على المدى البعيد – ستزيد من ترسيخ النفور بين فئات المجتمع في البلد الواحد . ولعلنا في غنى عن الاستطراد حين نستعرض ألوان الانقسام في مشهد الثورات العربية .
أولا : الانقسام بين الفئات العمرية في المجتمع : عندما اندلعت الثورات ، صار التبجيل يتجه نحو فئة عمرية واحدة هي " الشباب" ، واعتبارهم وقود هذه الثورات ونواتها الأولى ، مما يعني أن كل أفراد المجتمع خارج فئة الشباب ؛ هم إما أتباعا أو مبعدين عن التطلع نحو معاني الحرية والتقدم والعدالة وغيرها من معاني حملتها الثورات في شعاراتها الضخمة .
ثانيا : الانقسام بين التشكيلات الثقافية في المجتمع الواحد : فحين خرجت الثورات ، كانت هياجا لا يُسْلم قيادته لأي جهة فكرية أو ثقافية- بل كانت الأصوات تعلو ضد كل إطار من شأنه أن يكون ناظما للحشود الغاضبة !-  الأمر الذي سبب صدمة عند المثقفين أولا ، ثم عند العامة الذين رسخ في وعيهم بصورة مباغتة ، أن الفكر والثقافة والمعرفة لم تصنع لهم أمنيتهم الغالية في "ثورات الغضب" ، وبما أن الأحلام تسبق التصرفات ، فقد تم نسج كل أحلام الثورات بعيدا عن سلطة القلم والحرف ، خاصة وأن هذا النوع من السلطات هو بطيء في فعله وأثره لا يظهر إلا بعد سنوات وربما عقود طويلة من الفعل والتجربة . وبما أننا – عربا – مللنا الانتظار ولم ندرك أهمية مشوار التربية الطويل ؛ فقد انبرينا – مثقفين وغير مثقفين – للاحتجاب بحجاب الثورات ، وكان حجابا عن العقل والمعرفة ، وسفورا للفوضى والغضب!
ثالثا : الانقسام بين الفئات ذات الدخل المتذبذب والمرتفع : فقادة الثورات هم من محترفي الإنترنت – في الغالب- ويستخدمون تقنياتهم المنعزلة في عالم افتراضي ، لعقد الاجتماعات وتمرير أرائهم للعالم الافتراضي والواقعي معا ، وبما أننا في دول ينخفض فيها مستوى دخل الفرد ، فإن احتكار هذه الثورات من قبل الطبقات القادرة على استخدام التقنيات العالية الكلفة كالإنترنت ، يجعل الثورات تتزيَّى بالطبقية الرأسمالية ، فكرا وتكوينا بدل أن تبني ذاتها من الحقل والمصنع - ساعد على ذلك انكباب القنوات الإخبارية الفضائية على ملاحقة ما يستجد في الميادين والساحات عبر ما أطلق عليه لاحقا "الإعلام الاجتماعي"، فكل إنسان هو صانع للحدث !-  صحيح أن الإنترنت هي من أوجه النشاط الإنساني مثلها في ذلك مثل الحقل والمصنع ، ولكن ضريبة الدخول إلى عالم الإنترنت والبقاء فيه مرهون بقدرتك على الدفع والدفع فقط !
رابعا : الانقسام بين فئات المجتمع ذات التوجهات المختلفة : فعلى الرغم من أن الثورات يراد منها أن تقمع المنابزة بالألقاب بين المجتمع ، فلا حرج إن كنت يساريا أو يمينا أو إسلاميا أو علمانيا أو ما شئت من تصنيفات فكرية ، لأنك في النهاية واقف في صف واحد هو الثورة ، نجد أن الثورة – على العكس من ذلك – قد عمّقت الانقسام الفكري في المجتمع ، فالساحات مقسمة ما بين كتل مختلفة ، ترفع كل الشعارات إلا شعار الوطن الواحد ! وهذا أعطى مدلولاته في الانتخابات التي لم يكن التقدم عليها وفق كفاءة "المشروع" المقدم من قبل الشخص المنتخَب إلى المنتخِب ، وإنما كانت الأيدولوجيا ،و الخلفيات الحزبية للقوى المتنفذة في المجتمع هي التي حكّمت أصوات الجماهير ، فتولى غير الكفء وتراجعت قيمة العمل والعلم في مقابل الشعارات والتحزبات .
خامسا : الانقسام بين مؤيدي الثورات ومعارضيها : من الثابت تاريخيا ، أن أسوأ الديكاتوريات هي ديكتاتورية البوليتاريا ، هكذا اعترفت الكتلة الشرقية بعد فشل ثوراتها القائمة على الدفع بطبقة " العمّال" على حساب ذوبان الطبقات الأخرى في المجتمع ، مما أسفر عنه هجرة رؤوس الأموال وأصحاب الخبرات العالية إلى دول الغرب بعد أن تم تصنيفهم في مصاف المعاداة للثورة أو الثورة عليهم ! وقريب من هذا حصل في الثورات العربية ، فكل من لا يؤيد الثورة هو خائن للوطن ، وهو إما "فلول" أو "من أتباع النظام" أو "سلطوي" ...إلخ ، وبذلك انقلبت الثورات على نفسها في مهدها ! إذ من المفترض أن هذه الثورات قامت بهدف تقرير "الحرية" بكل أشكالها ، فكرا ورأيا وإبداعا ، في المجتمع الذي كان ما قبل الثورات ؛خانعا تحت نيران التسلط والتجبر فإذا بها تمارس أبعد درجات الديكتاتورية حين تقرن رفضها أو محاولة تصحيح مسارها ؛ بالخيانة والعمالة والجبن!
سادسا : الانقسام الزماني في عمر المجتمع  بين ما قبل الثورة وما بعد الثورة . ولعل هذا أشد ما يمكن لأي ثورة أن تكون ظالمة فيه . إن الثورة حين ترى نفسها أنها صانعة للتاريخ ، فإنها تلغي – حُكما- كل ما سبقها من تاريخ للأمة ، بل ويصبح كل ما قبلها ظلاميا انظلاميا ظالما ، حتى تمكّن لنفسها بالتبشير الذي يزيد من بهرجتها وفورتها في عيون أهلها ، إذ كيف ستحمل الإنسان على أن يثور على ما هو خير أو معروف أو جميل – ولو بعض الجمال- في حياته ومعيشته ؟! وبذلك يتم إلغاء إرثا عظيما من الشخصيات والأفكار والجهود والمعارف التي تراكمت عبر سعي الأمة لمعرفة ذاتها وبناء حاضرها . كيف لنا أن جحد كل الجهود المبذولة في زمن ما قبل الثورات ونعتبر أن الثورة وحدها هي ميلاد الأمة والتاريخ والإنسان !  .
سابعا : الانقسام في تقييم الكفاءات البشرية : فبدل أن يتم تقدير المحسن في عمله ولو كان يعمل في ظل نظام سابق امتد لعقود ، تم التشكيك في قدراته وولائه لمجرد أن قدَره حكم عليه أنه وُلد ونشأ في فترة زمنية ما قبل الثورة . لقد رأينا هذا التضخيم في تخوين الأكفاء بصورة خارجة عن حدود العقل ، حين تعالت الأصوات برفض كل الأنظمة جملة وتفصيلا- مؤسسات وأفراد -  دون الأخذ بعين الاعتبار أن ثمة أفراد نبغوا في مجالاتهم فاستحقوا أن يكونوا ذوي صدارة في المجتمع ولا علاقة لهم بالانتماء للنظام الحاكم . لذلك سمعنا عن عزل عشوائي للقيادات ذات الخبرة من مناصبها ، ثم المناداة بالثورة على التشكيلات العاملة في الجامعات وكل مرافق الدولة ، وكانت التهمة حاضرة دوما ، أن من يعمل في ظل النظام السابق فهو من أتباع النظام ! والسؤال المتبادر للذهن : في مصلحة من تصب فكرة التخلي عن الكفاءات ورفض الخبرات ونكران الجميل لمن عمل وأبدع وأنتج !؟ هذا سؤال على الثورات أن تجيب عنه اليوم .

ثامنا : الانقسام الجغرافي السياسي : داخل البلد الواحد و الحي الواحد بل والبيت الواحد : فتحولت خارطة الأوطان إلى مناطق صراع تستحل إيذاء بعضها بل وسفك دمه أحيانا عبر صراعات وهمية وبشعارات "ضد" أو "مع" ، فرأينا الهرج يكثر حيثما يطول أمد الثورة ويشتد أوارها ، ولا زالنا حتى اليوم نعاني من تناحر الأحياء والمناطق من جراء انتكاسات ما بعد الثورات .
إن مشكلة "الإقصاء" الملازم لمفهوم الثورة وجوهرها ، لا يمكن تبرئة أي ثورة منه شرقا أو غربا ، ما يدفعنا للقول :أن الثورات ليست هي الأداة الصحيحة لإقرار العدالة ولا للبرهنة على قوة المجتمع ولا على صحته ! إن أي كبت يدفع إلى الانفجار ، دون أن نبحث في هوية الكبت ولا رشد الانفجار ، وهذا من سنن الكون والطبيعة الذي برز في ثورات هي للغضب وليست للبناء .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )