التاريخ غير المكتوب ( 4 )



صور من وكالة ناسا الفضائية

دوام الحال ... من الحال

·                  لا يحق لك أن تدعي البطولة وأنت تقف على أرض مغتصبة ! فالبطولة في مواطن الشبهات إما  هذرمة السكارى أو ألغاز المجانين ! إن هذا الترويج للبطولة الزائفة في المواقف الخطأ يدل على خواء العقل من مثال السمو الحقيقي ، وعلى تخبط يعتري البصيرة حتى لتغرق في أنصاف الظلمات ، وعلى وهن يفت العزيمة فلا تجد لها منفذا سوى مزيد التدهور في الشهرة العبثية . إذا أردت حقا أن تسجل موقفا به تُذكر ولو بعد حين ، ومن أحداثه تستجلب طهارة الأثر ؛ فعليك أن تفتش عن مواطن الحق وتلتزمها ، وأن تكون غنيا بحريتك عن الاستعباد لداعي هوى الادعاء ، إن الظهورات الكاذبة لنفسية مريضة بذاتها ليسلك بصاحبها كما تقول اللغة العربية إلى أن يصير "سرّاجا مرّاجا" لا تقطف سوى العلقم! وهذا حال من يروج لنفسه لأنه لا يملك قضية يعيش لها ، ومن يزايد على العفة لأنه قائم في الشبهة ، ومن يتاجر بالقيم لأن الأخلاق في منطقه وجاهة اجتماعية ووسيلة لكسب الدنيا .
·       "التغيير" كلمة فقدت حماستها في عالمنا العربي ! عندما قاد باراك أوباما حملاته الانتخابية كانت كلمة السر التي أذهلت الناخبين هي كلمة " التغيير" ، وقتها اندفعت صناديق الاقتراع لتعلن  أن قاموسا جديدا لابد أن يولد لكي تكمل الأمة الأمريكية مجدها ، وهذا القاموس يعني أن الجميع أفرادا وجماعات كانوا على أتم الفهم والاستعداد لتحمل مسيرة التغيير والشروع في ولادة لا يضمن أحد صورة الكائن الذي ستتمخض عنه ، ولكن الكلّ مستعد لتحمل النتائج وللصبر على مجاهدة خطأ التجربة ، المهم أن تستقر كلمة " التغيير" في المجتمع إرادة وفعلا،  لا شعارات فحسب ! أما عندنا في العالم العربي ، فالكلمة التي حرّكت الثورات ما فتئت أن اهترأت ونكصت على أعقاب لغتها؛ مفردةً عقيمة اختفت من محركات البحث و انمحت من شعارات الأمة ! فكل شيء يعود ، تدريجيا أو سريعا ، على ما كان عليه قبل الثورات ، فالإعلام وقضاياه المتوزعة ما بين العنصرية والسخرية والشهوانية ، على حالها بل زادت معدلات المتابعة، لأن القلب العربي تعب من الألم والبكاء والغضب على مدى السنوات الثلاث الماضية ! والعسكرية عادت لتحكم العالم العربي المنتفض على العسكرية والمدعي زورا أنه يبحث عن الدولة المدنية ! بل وبلسان الشعوب التي خرجت تصرخ ضد "العسكر" عادت اليوم لتهتف يحيا "الجيش والعسكر"! والفوضى والفقر والبطالة والانتهاكات في الأخلاق والتدمير في الاقتصاد والمجتمع ..إلخ صارت قضايا يستطيع العربي أن يتحملها في مقابل أن يعود لروتينه السابق ، المهم أن يعود كل شيء كما كان ! هل رأيتم كيف هو الفارق بيننا وبين الغرب ! إنه ليس فارقا في القيادات السياسية ، ولا فارقا في مستوى الرفاهية ، ولا تضخما في الديموقراطية عندهم ، إنه الفارق في الشعوب ، الشعوب التي خرجت وتحملت في ثورات البناء الغربية ، والشعوب التي آمنت بالتغيير حالا وليس حلا ، والشعوب التي تشد حزام الصبر والأمل حين حدوث النكسات المالية والسياسية ، هذه الشعوب، رغم خوائها الروحي والعقلي، لكنها تملك إرادتها في أن تجعل واقعها يتغير ، أما الشعوب العربية ،ونحن منها بالطبع ، فإنها فقدت كل ما يتميز به العربي الأول من الصبر والإرادة ، والغريب أن هذين العنصرين هما كانا مناط اصطفاء العرب ليكونوا حملة الرسالة الخاتمة ، ذلك أن "التغيير" في واقع البشرية على مستوى الرسالات السماوية ، أو حتى الحركات الأرضية ، يحتاج إلى صبر وإرادة لينزل من الضباب إلى الرؤية ، ومن الحلم إلى الواقع . ولولا صبر وإرادة الرعيل الأول مدة 23 عاما من عمر الدعوة الإسلامية لما كنا نحن اليوم نحصد ثمار الإسلام وبقاء رسالته ! ففي أي ردهة سحيقة طمر العربي المعاصر أكواما من النسيان على صبره وإرادته ، وعاد بلحن رتيب ليتمنى: لو يعود كل شيء كما كان !
·       كم تُغتال الألسنة عجبا حين نرى أننا العرب نقتات على مصائب بعضنا بعضا ! فالكارثة السورية الحاصلة اليوم فتّقت الحجب عن ضمائر عربية عاقر من العروبة والإسلام ، فصارت أعداد نساء سوريا المغتصبات أحاديث  يزيد من ألقها متابعة وحوش الأعراض ، وحكايا فتيات سوريا اللاتي يتم الاتجار بهن تزويجا؛ قصصا يُتسلّى بها في ليالي الفارغين ، ومآسي اللجوء السوري معطيات بحثية لكل باحث مغمور يبحث عن الشهرة من تلوين دماء الضحايا بمداده الأسود  ! لقد أوقفتنا الأزمة السورية على علل خطيرة في الذات العربية ما كنا نشعر بها من أنفسنا ، وهذا من خطورة المرض ! فالعلة الفتاكة تأكل نفسها بنفسها ولا تعي ذلك ، فلا ألم ولا نزف ، فالجسم لم يعد به مزيد عافية ليتنبه على الخلل ويسارع في إقامة مزاجه ليظل يشعر يخطورة ما هو فيه ، إن الشعور بالعلة إحدى بشارات الشفاء ، أما التمادي في الصمت فعلامة الموت المحقق !
الأزمة السورية أفرزت الصراعات التي نعيشها على مستويات متعددة :
أولا : الصراع بين القوى العربية الباحثة عن موازين جديدة للقوى في المنطقة العربية وكان ثمنها الوحيد هو الدم السوري المهدور ببرود .
ثانيا : الصراع بين الغنى والفقر والقوة والضعف : فالكل يستفيد من العمالة السورية الرخيصة ، ويتاجر بزواج القاصرات السوريات ، والأمم المتحدة تجد فرصتها رابحة لزيادة ميزانيتها من جراء كل مأساة يعيشها العرب فقط ، فجيوب موظفيها لا تملؤها إلا الدماء العربية .
ثالثا :الصراع الطائفي بأشكاله الواسعة في المنطقة العربية : وجد له منفذا ينفس فيه عن غضبه المكبوت في الأرض السورية ، فهناك يجتمع كل الطوائف والملل ليكفِّر كل منها الآخر، لا بالقول بل بالظِنّة والدم .
رابعا : أننا كعرب نرضى بأن نكون دمى تتصارع فيما بينها  تلبية لمطامع القوى الخارجية المتعادية فيما بينها : فالأرض السورية اليوم هي كبش محرقة لكل القوى العالمية المتصارعة ما بين شرق وغرب ، وقوى إمبرالية وأخرى شيوعية ، وشعارات العنصرية والسيطرة والتسلط ، عدا عن استشرار النفوس الطامحة إلى السلطة والمتمثلة في رموز من المعارضة السورية تسعى لكسب ودّ أمريكا والدول الغربية بدماء شعبها العربي السوري .
خامسا: كان شعار المرحلة القاتمة في الحرب على العراق والحصار الذي استمر فيما يعرف بأبشع مجزرة إنسانية يشهدها التاريخ الحديث ، ( النفط مقابل الغذاء )،  أما اليوم وفي المسألة السورية صار الشعار أكثر سوداوية ( المال مقابل الدم ) ، سواء كان هذا المال نفطا أو وعودا بالإعمار أو مساعدات عسكرية ، وسواء كان هذا الدم من دمشق أو حلب أو حماة أو حمص ...إلخ المهم أن يكون دما سوريا قابلا للدخول في المراهنات .
إن دوام الحال من المحال ، حين توجد إرادة بشرية تؤمن بسنن الله في الكون بالتغيير والتقلب ، ولكن حين تنكص كل معطيات الشرف والإنسانية والعروبة  في النفوس العربية يصبح للسنّة الإلهية صورا أخرى ، فإن عدتم عدنا  ،وهكذا يصبح دوام الحال من الحال !



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )