أخوف ما نخاف من الثورات .... أن ؟ (2)

( 2 )

أخوف ما أخاف من الثورات أن تخدر في عقولنا الوعي، وفي نفوسنا محاولات السعي وراء الوعي .

إن المبادر إلى الذهن أن يقال أن الثورة هي شروع الجماهير للعودة إلى الوعي الذي اغتصب منها ، وأفرز غيابه أشكال الظلم في واقعها المعيشي ، فالإنسان لا يطلب العدل مالم يعرف قدر ما اغتصب منه ويشعر بخطورته على وجوده ، وهو كذلك لا يسعى وراء الحرية إلا وقد تراءى له الأفق العظيم الذي تفتحه له الحرية مع الإدراك الصحيح للفارق بين الحرية والفوضى ... وهكذا هو الدأب في ما تبقى من تطلعات الإنسان الساعي في وجوده نحو الرقي والاكتمال ما استطاع ، إن كل شيء يبدأ من الوعي، ومتى تنبه الإدراك وانقدحت الفكرة كان كل ما يحدث على الأرض هو مفعول لا فاعل ، وأثر لا مؤثِّر ،فما بعد الفهم من فوز، ولا بعد انكشاف العماية من ضلالة!
ولعل أي حركة إنسانية لا تتسربل بحقيقة الوعي ما تلبث أن تجف منابعها من الأرض ، حتى لو كانت هذه الحركة نابعة من الميول الدينية أو من ضرورات الحياة ، لأن الفطرة دوما لا تنشط إلا في تعاطيها مع النور ، وهذا الأخذ والردّ هو فعل الإنسان المتجدد سواء أكان يعيش في مجتمعات البادية أو في قصور الحاضرة ، وسواء أكانت خارطته الجغرافية تمتد على وسع الصحارى العربية أو تطاول قمم الجليد في أرض الله الأخرى .
والوعي عملية مخاص مستمر تستغرق وقتها الممتد عبر عمر وجود الإنسان في الكون ، ورغم كونها ركيزة من وظائف العقل والوجدان إلا أن ركام الغفلة قد يغشى البصائر عن ملاحظة أفعالها ، ولكنها لا تتوقف بحال ، بل تظل مستمرة متنامية ولو في الظلال ، حتى إذا ما عاد لها ساعد الإرادة يوما ، تكون هي سارية الفعل الإنساني في خضم الحياة ومعتركها .
ولأن الوعي يحتاج لوقت أولا كي يمارس فعل النضوج ، و إلى شجاعة كي تتحدث عنه ، تصبح ثمرته مرهونة بالبيئة التي يكبر فيها الإنسان وبمدى قدرة الإنسان على قراءة الأحداث حتى لو كانت معاكسة لما تهواه نفسه ، ففارق كبير بين المنفعة والحقيقة ، ولا يمكن بحال أن نقيس صواب شيء ما أو انحرافه بقدر ما يحقق لنا من المصلحة واللذة .
إن الوعي يبرز حينما يكون هو الميزان الذي نزن به حماستنا العاطفية فلا نتركها تفيض على قوى التمحيص والتحكيم في وجداننا ، فلا نندفع لقبول الشيء لأن الجو العام يريد ذلك أو لأن هذا أفضل ماهو متاح ، أو لأن الأمل في "ربما " قد يُغيّر من المعادلة يوما ما . إن العيش في الشعارات والوعود البراقة هو أكثر ما يُزري بنضج الوعي عند الإنسان ، ولعل الثورات هي أكثر المراحل التي تقتات على الشعارات والطموحات ، حتى ليمكن تبرير أي خطأ في جانب أصحابها ، ويصبح التغاضي عن هفوات هذه الثورات وإن كانت هذه الهفوات تمسّ الجانب الإنساني أو القوانين العادلة ، يصبح هذا كله مغفورا له في سبيل تمكين الثورة من التضخم والسير في مجراها ! وهذا خلاف ما يرضاه العقل والبناء السليم للمجتمعات ، ذلك أن الثورات تنتهي بمجرد أن تبلغ مرادها الأصلي ، لأنها في داخلها لا تحمل سوى هدفا واحدا ولا تستطيع أن تقدم مشاريع كاملة ، فالثورة الفرنسية انتهت بمجرد سقوط الملكية وما جاء بعد ذلك هو مراحل مجتمعية تلونت بطابع القوى المحركة وليست نابعة من قوة الثورة ذاتها ، وكذلك ثورة الخميني الإيرانية انتهت فعليا بسقوط الشاه ، ولا يستطيع أي إنسان أن يخدع نفسه بأن للثورة برنامجها طويل الأمد ، فطبيعة الثورات لاتحمل هذا السياق الزمني . بل إن الثورات لو ظلت ممتدة لتوقفت حركة البناء في المجتمع ، لأن مظاهر الثورة من تعطل الحياة وتوقف مرافقها ،والفوضى في الآراء..، كل هذا مما لا يحتمله  الناس إلا لأجل محدود ولفترة مقدرة بقدرها ، و يستحيل أن يصبح حالا مستقرة ، لأن النفوس ما تلبث أن تتعب ، والحياة تفرض خطها المتنامي على الجميع ، لذلك فلا مصداقية لشعار "الثورة مستمرة " !
كما أن الثورات التي لايملك أهلها أن يحاسبوها ، لا تعتبر ثورات قادرة على رسم مستقبل أفضل ، أما أن تنزع الثورة صفة التقديس على القائمين بها ، وتوهبهم حصانة ضد المساءلة والمراجعة فهذا لا يكون ثورة مدنية ولكنه أشبه بانقلاب يقرر حكما مستبدا لا يُعلم له نهاية ، لأنه جاء في غيبوبة الوعي الشعبي .
لقد تمنّى الكاتب " توفيق الحكيم " لبلاده أن تعود يوما لقراءة ثورة "23 يوليو 1952م" ببصيرة عادلة وناقدة ، ورغم أن توفيق الحكيم من أكثر من تحمسّوا لهذه الثورة مع أنه لم يشارك فيها ، إلا أنه اعترف في كتابه " عودة الوعي " ، أن غلبة الحماسة العاطفية والاندفاع في شعارات الثورة –حتى لو كانت ضد العقل والمنطق – كان المرض الحقيقي الذي أصاب الوجدان المصري ، فجمّده عن الوقوف في صدّ انحراف الثورة عن طبيعتها الواجبة في تأسيس مجتمع المساواة . وهو يعلّق أن الوعي يعود للأمة حين تستطيع أن تراجع ثورتها وتعترف بأنها فقدت بوصلتها العقلية في خضم خطب رنانة وشعارات ذهبت مع الريح !

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )