أخوف ما نخاف من الثورات أن ....؟ (3 )

( 3 ) 

أخوف ما أخاف من الثورات أن تعطّل التطلع نحو التنوير والاحتكام إلى المعرفة ، وأن تُرسي -كنوع من ردة الفعل على الفوضى المرافقة للثورات عادة- الجمود والرضى بالحلول المستعجلة التي تقتل الإرادة الحقيقية في التغيير والبناء .
وقبل أن نستطرد في الحديث عن هذا المعطى ، فإننا لابد وأن نوضح مفهومنا للتنوير ، إن التنوير هو تلك العملية المعرفية المتصاعدة في كل مجالات الحياة : السياسية ، والثقافية ، والعلمية ، والدين ، متابعا على السياق نفسه الارتقاء بالقيم وتفعيل العنصر الأخلاقي.. على أن يعمل هذا التنوير على الاندماج بكل فئات المجتمع ويخاطبها دون تقييدها بقيود الجنس أو المستوى الاجتماعي أو الميول الفكرية ، بمعنى ألا يكون فوقيا( وفقا على النخبة في الأمة )  ولا مفروضا من سلطة خارجية غريبة عن السياق التاريخي للمجتمع وأدواته في المعرفة .
   إن العلاقة بين الحراك المجتمعي ومستوى التنوير فيه ظل من البحوث التاريخية الجدلية منذ بدأ التأريخ للفعل الإنساني على هذه الأرض ، وهو ليس وليد العصر الحديث كما قد يتصور البعض . فمثلا نجد أن العلاقة مع المعرفة ،حين تصطدم بالسلطة الحاكمة، كان حالا مطردة في سير المصلحين وعلى رأسهم الأنبياء ، ودوما ما كان يُخيّل للسلطة الحاكمة أو رؤوس القوة في المجتمع؛ أن الأفكار والرسالات التي تحملها الأصوات الحرة من شأنها أن تزعزع سلطانهم القائم على تغييب العقول والاستفادة قدر المستطاع من تفتيت الثقة في العزم على الإصلاح أو حتى في امتلاك أدواته عند سواد الأمة. وهذا يتضح سواء في الموقف بين إبراهيم عليه السلام والنمرود ، أو في المقايضات التي عرضتها قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم من ملْك ودنيا في مقابل التخلي عن الدعوة والتبليغ .

والسؤال ملخصه بوضوح : من يسبق  الآخر ؛ التنوير أم الثورة ؟

لدينا هنا ثلاثة احتمالات :
·       أن يسبق التنوير (بمعنى التضخم المعرفي والقيمي في المجتمع ) الثورات ( أو أي حراك يهدف إلى إحلال صورة جديدة للمجتمع تقوم على العدالة والحرية ) ؟
·        أن يأتي التنوير مرحلة تالية من قيام الثورات ويعتبر ثمرة من ثمراتها ؟
·        أن يسير التنوير مع الثورة جنبا إلى جنب، بحيث يصبح التنوير بما يطرحه من مناهج فكرية ، هي الأطر التي تسير عليها الثورة ؟
إن كل نقطة من النقاط السابقة واردة لا من باب ضرب الاحتمالات فحسب ، ولكن في التاريخ نماذج على حصول كل احتمال. ، فمثلا في الاحتمال الثاني ( أن يأتي التنوير تاليا للثورة ) نجد أن الثورة في إنجلترا عام 1688 ، قد خلقت ظروفا ساعدت على بدء حركة الفلسفة التي صارت تتناول العلاقة بين الحاكم والمحكوم . وفي الثورة الأمريكية نجد الاحتمال الثالث يكاد يكون الصبغة المستطرقة لمسيرة هذه الثورة (أن يسير التغيير العنيف مع التنوير جنبا إلى جنب في بناء المجتمع الجديد ابتداء من مدافعة المستعمر والاستقلال وحتى حركات المجتمع المدني ) فقد تزامنت التطلعات نحو المساواة وحقوق العبيد وإنشاء النظام العالمي الجديد ،كل ذلك ُوجد مع الدافع إلى التحرر والرغبة في بناء السيادة .
غير أن ما يهمنا حقيقة هو الاحتمال الأول ، أن يكون التنوير سابقا على الثورة ومؤسسا لها ، وهذا هو الاحتمال الأكثر مصداقية و االمتوافق مع السنن الطبيعية في بناء المجتمعات . ذلك أن أي حراك مجتمعي ،بمافيها الثورات، لابد له من محددات تضبط أهدافه وتقوّم خط سيره حتى لا يعود على أصحابه أولا بالدمار( فتكون الثورة أول ما تأكل أبناءها) ، وكي يحمي هذا الحراك نفسه كذلك من التطلعات الصغيرة التي قد تقفز على الثورة وتسرق فرحتها من مجتمعها .وهذا لا يعني أن التنوير يموت بقيام الثورة ، بل إنه يتحول بالضرورة إلى مرحلة جديدة من التطور بما يتناسب والنقلة الهائلة التي يعيشها المجتمع خلال وبعد اندلاع الثورات .أي أن التنوير يصبح بالتدريج عصبا في الوعي المجتمعي ورئة يتنفس من خلالها المعرفة والتغيير معا ، مع حفظ التوازن بينهما .ولو انتهت الثورة فإن التنوير لا ينتهي أبدا .
وتحت هذا الاحتمال الأول نتناول الثورة الفرنسية ، نظرا لأنها الثورة التي تم الاستشهاد بها كثيرا أيام الثورات العربية ، وحقيقة أن الاستشهاد لم يكن دوما في مكانه مما يوحي بأن بريق كلمة ( الثورة) طغى على القراءة الرصينة للثورة الفرنسية ،أو سبق التأمل في فكرة طرحها نوعا من المثال الذي يُراد تتنزيله على واقع المجتمعات العربية ، وكأننا نتناسى أن الثورات هي بنات أفكار مجتمعاتها وليست نسخا مؤدلجة من عوالم أخرى .
هناك قراءتان استقرتا حول الثورة الفرنسية :
القراءة الأولى : ترى أن هذه الثورة كانت نتاجا لحركة التنوير التي عاصرت القرن الثامن عشر الميلادي واستمرت ما بعده ، وأن تدبير أمر الثورة كان يتم في المعاقل الفكرية السرية التي انضم إليها الفلاسفة والمفكرين والكتاب في فرنسا في تلك الحقبة. وقد عمل هؤلاء الصفوة على وضع مناهج تنويرية، ليس على المستوى السياسي فقط للمجتمع الفرنسي، بل على كل الأصعدة العلمية والأدبية والدينية ، أي الثقافية بصورة عامة ، وتمّ تضخيم الزخم المعرفي عبر فتح آفاق جديدة من التفكير وتشجيع النقد ، حتى لقد وصل أقصاه حتى طال نقد العرش والكنيسة وأساليب الحكم ، وهو ما كان شارة الانطلاقة لهذه الثورة عندما تلقفت هذه الأفكار كلها "العامّة" من الناس وأرادت أن تعيش بها .
القراءة الثانية : ترى أن هذه الثورة كانت مفاجئة حتى لأهل التنوير أنفسهم ، وأنها قد جاءت بهدف وقف حركة التنوير التي كانت تسير بهدوء في الحياة الفرنسية والقضاء عليها، بمعنى أن الهدف من الثورة كان إيقاف المد المعرفي والتغيير المدني الهادئ الذي كان يسير عليه المجتمع الفرنسي ، فللوهلة الأولى نرى أنه من العجيب أن مجتمعا يسير نحو التغيير وفق الأصول المعرفية والمنطقية السليمة؛ أن يفرز الفوضى والعنف اللذين كانا أبرز أشكال الثورة ! ولم يستطع أصحاب هذا الرأي الوصول حتى اليوم إلى الأيادي الخفية التي وقفت وراء تعقيد المسير التنويري وإغراق المجتمع على مدى مائة عام  في الفوضى، ما بين الثورة ثم عودة الملكية ثم حركات التحرر وما رافق كل ذلك من تدهور اقتصادي أوصل البلاد إلى حافة الإفلاس وفوّت على فرنسا مكانتها قوة عالمية مسيطرة .
ولعلنا نستطيع أن ننظر إلى الثورات العربية كذلك من خلال هذين المنظورين :
أما في المنظور الأول : فهل كانت الثورات العربية جنيا طبيعيا عن حركة تنوير واسعة عاشتها المجتمعات العربية ؟ إن أي مراقب للسير الفكري الثقافي بأطيافه كلها ، سيصادق ولابد على أن التنوير لم يكن حركة واضحة تُلحظ بوادرها ويمكن مراقبة نموها ونضجها في العالم العربي ما قبل الثورات . نعم هناك ما يمكن أن نعتبره علامات فردية فارقة في سيل الجمود الفكري والتدهور في العادات الثقافية العربية، ولكنها جميعا لم تشكّل ظاهرة تؤسس لتيار مطرد يسبح فيه أتباع – وإن كنا نتحفظ على هذه الكلمة – يعمّقون هذه الجهود الفردية بما يبني أساسا لمنهاج حضاري في كل فرع نبغ فيه هؤلاء وغيرهم . ولعل السبب في ذلك يعود إلى أننا في فكرنا العربي لم نستطع حتى الآن أن نكتسب مهارة الفصل بين العاطفة والعقل ، بمعنى أن نستطيع أن نستخلص المنهج الفكري وطرائق البحث والنظر لهذه الشخصية العلمية أو تلك سواء اختلفنا معها أو اتفقنا دينيا أودنيويا .لذلك سنظل حائرين في قياس درجة التنوير في مجتمع ما قبل الثورات ، ما بين قياس عام يهتم بالرأي العام ، وقياس خاص لا يستطيع أن يُهمل نبوغ الأفراد .
أما من المنظور الثاني : وهو هل كانت الثورات أداة لهدم الخطوات التي بدأها المجتمع العربي نحو معرفة ذاته ومحاولة بناء وعيه تجاه حقوقه وقضاياه المصيرية ؟ لا نستبعد ذلك ، خاصة وأن انهيار الاستقرار في هذه المجتمعات يعني أولا انهيار ثقتها بنفسها وقدرتها على التغيير ، مما يستتبع بالضرورة جمودها في فاعليتها العالمية ، وحرمانها من اتخاذ المواقف القوية في قضاياها الكبرى وعلى رأسها قضية فلسطين والوحدة العربية والإسلامية . وليس معنى ذلك أننا كنا على ما يرام قبل الثورات أو أن الثورات قد هدمت ما كان قائما بالفعل !؟ لا ، ولكننا لا نستطيع أن نغفل أننا في زمن ما قبل الثورات بدأنا نقرأ أطروحات فكرية جريئة وجادة في سبيل التخلص من تبعيتنا الفكرية سواء للغرب أو حتى  للتجارب القاصرة في تاريخنا بالمطلق، فمثلا نجد أن الاجتهاد السياسي والذي كان أبرز وجوه الجمود في تاريخنا الثقافي على مدى قرون ، قد بدأ ينفض عن نفسه الغبار ويناقش ذاته ويتناقض مع واقعه القائم .وكذلك فإنه يجب أن  لا يخفى علينا أن الزمن الطويل الذي يستغرقه الاستقرار كي يتوطن مرة أخرى في وجدان المواطن العربي سيكون نقطة حرجة، في ظل أننا لا نعيش في العالم وحدنا ، بل إننا نعيش وسط عالم يتربص بنا أي ضعف أو تشتت ليعيد بناء معادلات القوى فيه .
إن المشكلة في الثورات حين لا يسيطر عليها قادة الفكر ولا تكون نتاج حركة تنويرية شاملة  ، أنها سرعان ما تستبد بالمجتمع نفسه ، وتؤسس لجملة من الأشكال لم تخطر للمجتمع على بال ، من مثل أن تأتي الثورات  باستبداد سياسي أقسى مما قبل ما دامت خطتها في التغيير غير شاملة ، وأن تؤثر سلبا على تصاعد المعرفة والالتزام بالقيم  ، وأن تحُدث الخلل في العلاقات بين طبقات المجتمع المتنوعة .
فهل لنا  الآن أن نقرأ الخيط الجامع والفاصل في الوقت ذاته  بين التنوير والثورة !
--------------------
لمطالعة المزيد حول مسيرة التنوير في التاريخ الأوروبي : قراءة كتاب ( التنوير) للمؤلفة :دوريندا أوترام – ترجمة : د.ماجد موريس إبراهيم / دار الفارابي ، مؤسسة محمد بن راشد أل مكتوم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )