فِعْل الحُـبّ

فِعْل الحُبّ

إذا أردت أن تظل على قيد الحياة فعليك بالحب !!
نعم إلى هذه الدرجة يعتبر الحب مسؤولا ليس فقط عن شعورنا بالحياة؛ ما يحلو للبعض تقييده في ضرب الإيهام الفكري ، ولكنها حقيقة يمكنك أن تسأل عنها علماء البيولوجيا ليثبتوها لك جينيا ، ولكن الأعظم حظا لو استطعت أن تستعرضها في ميراث الأديان لتجدها لا حقيقة فحسب؛ بل عقيدة قائمة بذاتها ، فلقد أحب الله الإنسان لذلك صنعه على عينه وسخر له خلْقه ومنحه الحسنى في آخرته وكلامه في الدنيا .
ولو توقفنا عند رسالة المسيح عيسى عليه السلام ، لوجدنا أن جوهر الرسالة والغاية من بعْث هذا النبي العظيم هو إقرار الحب معيشة للناس على هذه الأرض ، وهذا هو البند الثاني مع البند الأول المتوارد في كل الرسالات التوحيدية وهي إقرارا أن لا إله إلا الله ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) "سورة آل عمران". من هنا كانت كلمات المحبة والفداء والتسامح والغفران من المصطلحات التي جهد عيسى عليه السلام في تضمينها وعي العقل الإسرائيلي وقد تحمل في سبيل ذلك ما جعله من أولي العزم  من الرسل . لقد أتى عيسى عليه السلام على فترة من قسوة قلوب بني إسرائيل رغم التنعم الدنيوي ورغم إغلاقهم مصاريع العقل على شريعة موسى عليه السلام – كما كانوا يدّعون – ولكن كل هذا الميراث الدنيوي والديني لم يمنع عنهم تحجر القلوب ولا الغلو في الحقد والكراهية ، لذلك لم يتنفعوا بأي شريعة سماوية سابقة؛ بل ناصبوا العداء وحرّفوا وبدّلوا كل ما من شأنه أن يجعلهم في مواجهة مع طباع الشدة والنفور والعتو التي تكدست في نفوسهم . ولما كان عيسى عليه السلام ممهدا لمجيء الرسالة الخاتمة فإن من مهامه أن يُرسي الأرض الصالحة لاستقبال خاتم الرسل والرسالات ، وكانت الأرض هي القلوب اللينة، فهل لنا أن نتخيل أن قسوة القلب تعمي عن قبول الحق ،وأن رقة القلب ورحمته هي مفتاح الهداية وركيزة التوحيد ( اطلبني عند المنكسرة قلوبهم ) ، أبعد القلوب عن الله هو القلب القاسي ، ليس قاسيا بكل معاصيه بل إنه قاس لأنه لم يذق الروح حين ينتشر في الكيان من اعتناق الحب نهج حياة .
إن وجود تجربة في الحب ، هو جزء من النمو البشري الطبيعي بل والضروري لتكامل العقل وسمو الروح ، وسيظل الإنسان مهما أوتي من جلالة العلم أو صحيح المعتقد قاصرا عن بعث النور في دعوته لأنه لم يجرب يوما أن يحب!
ولشيء من خوف أن ينال الإسلام القسوة التي طالت بني إسرائيل هيأ الله له من أهله من عكف عمره على تيسير سبيل الحب تجربة روحية أمام الناس : كيف هو هذا الحب ؟ وكيفية الدخول عليه ؟ وماهي أحوال الارتقاء فيه ؟ وكم شكلا له وكم لونا يحلّ به وفيه ؟...إلخ ،كل ذلك تحول في الإسلام إلى علم قائم بذاته ومعرفة مثلى قلما خلا من الخوض فيها صادق وصدِّيق . من هنا كان ظهور أهل الولاية والمحبة – الذين عُرفوا لاحقا بالصوفية- في العصور الأولى من الإسلام بلسم الأمان، حمى الإسلام نفسه من القلوب المغلّقة والأفكار المتشدقة ،ولفت العالمين إلى أن ميدان الحب مع الله ثم مع الكون ؛ ميدان لا نهاية له ،وكلٌّ يصل بحسب ما أضاء قلبه من الحب والتجرد . ولا يمنع استقرار الحب الإلهي نفي الحب البشري ، بل إن من يطالع الموروث الصوفي النقي من الإفراط والتفريط ، سيجد أن الحب البشري معتبر في سياق السمو والعروج ، وأنه لا ربط بحال بين الجنس والحب بما عليه الصورة اليوم في فهمنا عن الحب ، وأن العيش في تجربة ممارسة الحب ليست وقفا على شهادات علمية ولا كفاءات مهنية ، بل مناط كل ذلك على الإرادة ، إرادة الدخول في حجاب الحب الإلهي ، وعبارته البسيطة ؛ الحب ولا شيء آخر غير الحب .
لقد ظنت الإنسانية المعاصرة أنها تستطيع أن توجد الرابط الذي يصهر الطموحات البشرية المتعددة على اتساع البسيطة في بوتقة واحدة عبر المخترعات ولغة العلم ، فيصبح من خلالها تحقيق السلم نتيجة قادمة بالضرورة ، إذ بعد كل الخسائر في الحروب العالمية وبعد الشحن النفسي السلبي المستمر من العيش في نظرية الصراع كقانون طبيعي في الغابة والبيت والمصنع والشركة .. ، ورغم انتشار التقنية والتكنولوجيا ووصولها إلى مختلف شرائح المجتمع غير أن ما بداخل النفس الإنسانية ظل عصيا على التغيير ، لأن البشر لاتحكمهم المصلحة ، هذا المبدأ – المصالح- يشهد منذ زمن غير قصير انهياره الشامل في رحمه الأول – الغرب – لأنه لم يستطع أن يعطي لهذه المجتمعات الصمود تجاه المحن خارج دائرة اعتبار أفرادها أعضاء شركات توزع أرباحها نهاية كل فصل . إن معاني كالولاء والانتماء والتضحية وروح الجماعية هي أوجه لمفهوم واحد هو الحب ، لذلك لا عجب وأن نرى أن هذا الانهمار الشرس على كل ما يمس الحب أو يتطرق إليه سواء عبر منافذ الإعلام المسموعة والمقروءة من جهة ، أو الشعارات التي تتضمن كلمة الحب ، تشهد كلها رواجا بين الاهتمامات البشرية المتشاكسة ، لأن البشر قد تعبوا من أن ينسوا قلوبهم ، فالعقل المجرد لم يستطع أن يوصلهم إلى نقطة القرار في تطور وجودهم ، بل لعله أغرقهم في مزيد من الفوضى تمثلت في النظريات الدائمة التغير من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ؛ علميا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا .
وبالتالي فإننا لانبعد عن الصواب حين نقرر أن كل من يريد أن يتصدى للناس بالوعظ والدعوة وحمل الرسالة، لابد  أن تكون له تجربته في الحب ، تلك التجربة التي تصقله وتجرده من جفاف العلم وقسوة التنظير ، لأن أولى ثمرات التجربة في الحب هي الرحمة ، وبهذه الرحمة كان نجاح الدعوة المحمدية وبقاء الإسلام .

ولا علينا أن نعترف اليوم أننا تعبنا من أنفسنا ، ومن حياتنا ، ومن اتباع الحجارة ، وآن لنا أن نسيل أنهارا ... أنهارا من الحب وبالحب وللحب .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )