أخوف ما نخاف من الثورات أن ...؟ (1)

(1)

  أخوف ما أخاف من الثورات أن تُنسينا همّ الإسلام والدعوة إليه وتطوير البحوث العلمية التي تستقي روح الإسلام وأهدافه  .
إن انهيار الحركات الإسلامية وانسحابها من المشهد السياسي في بلدان الثورات نتيجة فشلها المرصود أو المفبرك في إدارة بلدانها؛ يجعل من الحاجة بمكان التنبيه على قضايا حرجة تمسّ وجود الإسلام في عقول الأجيال الحاضرة والناشئة ، ممن ستُربّى على صورة مشوهة لتعاطي "الإسلام" مع قضايا مجتمعاته ، ممثلا في ثلة الحركات الدينية التي كثيرا ما كان شعارها "الإسلام أولا"، أو "الإسلام هو الحل" ، أو "الإسلام دين ودولة" ...إلخ ، ولكنها لم تجدد في آلياتها التطبيقية ولم تعش داخل اللحظة التاريخية المعاصرة، بل ظلت تردد شعارات المؤسسين وتقرأ التاريخ بعقلية لم تُحْكم فهم سنن التطور الكوني ولا الفاعلية البشرية في مسيرة التاريخ ، فكما أن للكون قوانينه ، فإن للحياة الإنسانية سننها القيمية ، وكذلك للتاريخ قواعد في قراءته للاستفادة منه ، وهذا كله لم نعالجه في أطروحاتنا الفكرية العربية والإسلامية ، ليس في مستوى الحركات الإسلامية فقط ، بل حتى في مستوى القراءة المتأنية لأمة تودّ أن تعيش لا أن تموت ، وأن تفعل لا أن يُفعل بها ، وأن تتطور نحو الحلقات التالية من وجودها السنني لا أن تتوقف عند أحلام النموذج والكمال غير المتحقق .
وقبل أن نتحدث عن كيف أن هذا الغرق في هوس الثورات لابد وسيؤثر على رسالتنا الأولى على الأرض، وهي إقامة أمر الله ودعوة العالمين إليه ، نجد أننا بحاجة للتذكير بأمور عدة تعلقت بها أشواك الظّن وتسلل إليها ضباب الرؤية .

أولا: أن الشعوب اختارت الإسلام ولم تختر الإسلاميين . ربما يكون في هذه العبارة التفافا على حقيقة أن الإسلام يمثله الإسلاميون وبالتالي لم تجد الشعوب ممثلا غيرهم ،لذلك اختاروهم ! المعادلة أصلا متناقضة ، إما بقصد أو غير وعي ، فمن قال أن الإسلاميين ( الحركات الإسلامية ) هي وحدها الممثلة للإسلام بكل مافي الإسلام من عقيدة وشريعة بصورة كاملة لا يتطرق إليها خلل التطبيق البشري ؟! لاشك أن الإسلاميين أنفسهم لا يدّعون ذلك ، ومن ثمّ فإن تأطير الإسلام وتقييد وجوده في أتباع الأحزاب الإسلامية هو تحديد لغير محدَّد ، لأن قيام الأحزاب عموما هو نتاج رؤية واحدة تتعامل مع الجانب السياسي في الدولة دون أن تتطرق إلى معالجة المشاكل الإنسانية على اتساعها والتي تتراكم في قاع المجتمع . وما نراه في الأحزاب من رؤى فكرية أو زوايا نظرية لمحاولة حلّ المشكلات الاجتماعية إنما في الحقيقة يأتي تاليا لهدفها السياسي الأول في الوصول إلى السلطة ، بل إنه ليأتي على هامش اهتماماتها بأن تُضحي بمكاسبها السياسية في سبيل التقيد بكل ما تمليه عباراتها الفكرية أو أطروحاتها النظرية ، وهذا ما حدث مع العديد من الأحزاب الطابع الفكري ، أو الأيدلوجي في شرق العالم وغربه ، وهو يحدث اليوم مع الحركات الإسلامية على مدى سنوات ، بدأت خلالها بتقديم الصورة المثلى عن تعاطيها مع المشكلات المعاصرة من زاوية الإسلام ، بكل مثالية وحزم ، فلما نزلت هذه الأطروحات على الأرض صار التطفيف في المعالجة هو السمة الأبرز في المجال العملي ، لأن معطيات الواقع كانت أكبر من حساب من وضعوا هذه الأطروحات ، كما أن مستجدات من مثل : حالة المجتمع الراهنة ، والعولمة الخارجية ، السياق التاريخي للمرحلة ، والأعباء الاقتصادية التي تزداد تراكما على عقل وكيان الفرد العربي ، وفوق كل ذلك عامل التوتر المتضخم في وجود الكيان الصهيوني وإملاءاته البعيدة كرفض حق العودة للفلسطينيين واعتبار القدس عاصمة أبدية للكيان المغتصب ، ثم إقرار يهودية الدولة شرطا أساس في إبرام أي صفقات سلام مع العرب ، كل هذه الإشكاليات وما تفرزه من تبعات على حياة وفكر العربي والمسلم ، جعلت الحركات الإسلامية في مواجهة سياسية لا عسكرية ، وأمام اختبار الشعارات الفكرية الكبرى، وامتحان الصدق مع الذات ، عدا عن ضرورة توفر الحنكة السياسية التي تأتي بالمران من مزاولة العمل داخل مجتمع الدولة ، وهذا مالم يتأت للحركات الإسلامية لأنها دوما كانت منبوذة ، أو مهجّرة ، أو محظورا على أنشطتها . وهنا وقعت الشعوب في اختبار المفاضلة بين العقل والعاطفة : أن تختار قيادات هي تعلم يقينا أنها فارغة من عُدّة الدنيا الأساسية لبناء الدولة ولا ميزة لها سوى أنها ( إسلامية ) ، أو أن تُبقي على وضع العلمنة بكل ما فيها من تهديد لمبادئها وكبت لأحلامها الدينية ولكن بشرط أن تجد قيادات قادرة على السير بها خارج مربع التبعية والإذلال الذي تعانيه منذ عقود ! وبطبيعة الحال أنه أمام هكذا اختيار ، ومع كل الرغبات الطيبة التي يحملها الوعي العربي والإسلامي وأحلامه بقيام الدولة الراشدة التي سوّق لها الإسلاميون طويلا ، كان الصوت للإسلام بكل ما يمثله من أمل وعقيدة ، ولكن الخيط الدقيق أنه لم يكن للإسلاميين ! وهذا مالم يتنبه له أحد وخاصة الإسلاميون أنفسهم . وهذه المفاضلة بين السلوك الأخلاقي والمهارة العلمية والعملية ، من القضايا التي نواجهها حتى في حياتنا اليومية ، قبل أن نواجهها على مستوى قيادة الأمة ، ورغم أن الفقهاء في اجتهاداتهم قد أعطوا الرأي الأخير في هذه المسألة إلا أننا تركنا حتى التفكير في مراجعة هذا الرأي أمام سطوة الثورة وأحلام الثوار . فمن المتفق عليه أنه يجوز وخاصة في المناصب التي تمسّ حركة الناس ومعيشتهم ، أن يتولى صاحب الكفاءة العلمية والعملية حتى لو لم يكن على مستوى رفيع من الدين ، على حساب من يتوافر فيه أعلى درجات الصلاح والتقوى ولكنه غير مؤهل ولاكفء في تسيير الأمور المعاشية . لأن فساد العامل الأول ( من قلّ دينه وحسُنت كفاءته ) يتحمله وحده أمام الله خاصة مع وجود الرقابة التي تضمن عدم تطرق فساده إلى ما بيديه من مصالح الناس ، وتصبح الأمانة حينها في حقه تأدية وظيفته على وجه الإتقان الذي يصلح به أمر البلاد والعباد . على النقيض من ذلك فإن الفساد المترتب على تبوّء العامل الثاني أي منصب ( وهو من حسن دينه وقلّ حظه من الكفاءة ) سيكون كارثيا على هيكلة أعمال المجتمع بأكمله . لذلك يتم تقديم الأكفأ دوما في المناصب التي تتطلب خبرة ومهارة ولو كان في دينه شك أو اتهام . ومن هنا جاز استخدام أهل الكتاب في بعض المهارات والصناعات حين ينعدم توفر العمالة المسلمة الماهرة فيها .

ثانيا : عندما وصل الإسلاميون للسلطة حكموا بأثر رجعي ، وعملوا على تنزيل كل مشاكلهم التاريخية على المجتمع المعاصر ، مغيّبين تحت نشوة النصر في الوصول إلى السلطة  ، أن المجتمع اليوم هو غير ذلك المجتمع الذي اضطهدهم، على الأقل بالنسبة للفئات الأصغر عمرا التي أوصلتهم للثورة والسلطة ، ومن ثمّ فإن رغبة الانتقام من التاريخ لم تكن خافية في خطاباتهم خلال المدة القصيرة التي تسلّموا فيها السلطة في مجتمعات بلدان الثورات ، أي أن هذا ينطبق بما قلناه سابقا من أنهم لم يعيشوا اللحظة التاريخية الراهنة ولم يستفيدوا من جدّتها، بل عادوا لاستحضار الماضي بكل مافيه من مشروعات عفت عليها لغة المال والأعمال الحثيثة النمو ، أو ذكريات مؤلمة لم يعد في العقول سعة لاستعادتها، أو مناهج علمية قد تجاوزها التطور التكنولوجي وما أفرزه من سباق معرفي حول العالم . من هنا كان الإقصاء وتقسيم المجتمع على أساس الانتماء الديني والفكري من أبرز ما يرافق الأحزاب التي تحكم بصبغة دينية ، وكنا نرجو أن يتفادى الإسلاميون هذا المنزلق لأن الإسلام لا يُحمّل وازرة وزر أخرى ، ولكن طول الألم المكتنز في صدورهم لم تُمكّن الزمن من أن يجدد فيهم الذاكرة . لذا فإن من عجائب ما يحدثنا التاريخ أنه باستقراء سنن الأمم في أنظمتها الحاكمة ، نجد أن صنفين لا يصلحان لأن يكونا في الحكم ، صنف "الساعي وراء السلطة " لأن هذا ما يلبث أن يصبح مستبدا وطاغية ، وصنف " المظلوم" الذي تجرّع غصص الظلم سنين طويلة لأنه لن يستطيع بحال أن يخرج من دائرة ألمه وسيرى كل ما يتحقق له من إنجازات مجرد رد اعتبار ورفع للظلم القديم ، فيظل دائرا بين الفعل وردة الفعل .


   واليوم ومع كل هذا الرفض لسياسات الإسلاميين في بلدان الثورات ، لنا أن نتخيل مقدار الصعوبة التي ستواجه من يريد أن يدعو الأمة لحمل همّ الإسلام وعدم نسيان وظيفتها الأولى في الأرض ، فالإنسان من حيث هو إنسان لم يوجد في هذه الأرض كي ينعم بالطعام والشراب وألوان الملذات ، فهذا محله البدائية التي لم توجد يوما في مجتمع البشرية ، ولكن الإنسان وُجد ليكون أداة تعمير الكون وبناء الحضارة وإقرار شكل المجتمع البشري الذي تسهل معاملات الأفراد به وفق العدل ، ولا يهم الإسلام شكل هذا المجتمع، هل سيتم توحده تحت دولة أو أي كيان يتفق عليه البشر وفق تطورهم التاريخي الحضاري ،ولكن المهم أن نظل نتذكر أن هناك وظيفة زائدة لمن يحملون الإسلام هوية وشرعة ووجودا ، فوق ما سلف من وظيفة التعمير ، وهي نشر هذا الدين وكفالة وصوله نقيا كما أُنزل إلى العالمين بعيدا عن خنقه داخل تحركات الحركات والجماعات ، وهذه ستظل مهمة لا تنقطع إلى قيام الساعة ، وشرفا لا يقبله إلا القليل الذي آمنوا أن تقلبات الدنيا ينبغي ألا تؤثر على ماهو ركاز في التصور من أن "الإسلام فوق كل شيء" ! ربما هذا يكون شعارنا الجديد للإبقاء على هوية دولنا العربية المسلمة .  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )