عودة الفارس( قصة قصيرة)

Window & Rain



قطرات المطر المتساقطة على صفحة النافذة تثير فيها الكثير من الشجن ، فالشتاء بالنسبة لها طقوس تعيش أيامها العمر كله ، منذ رحل في ليلة شاتية باكية !!
وحشة من الأنيس، وبرودة في الانتظار، وكل قطرة هي ذكرى من الحدث الوحيد في حياتها: أنها رضيت أن تكون ذات زوج بعيد !!
دون أن تعي بأن زوجة الغريب، غريبة عنه أولا... وعن الكون ثانيا !!
البحر المترامي أمامها يكتم في سكونه طول صبرها الذي طوته وهي تغزل رؤيا وتشرع في رجاء، و في مجونه يسكن عزيز دمعها الذي أهرقته وهي تشكو من جفاء، وتئن من غربة ..
فكان البحر بعض ماء العين !!
فصول حياتها متشبعة من أماني العودة كما هو سور النافذة الممتلئ من المطر الذاوي مع ساعات الصباح الأولى ، تنقضي ليلتها في الحلم ثم ما تلبث أن ترحل به شمس الحقيقة لتجد قدميها ما تزالان هناك في وقوف رتيب أمام نافذة عتيقة لا تعرف متى تكسوها بأطواق الياسمين كما هي عادة أهل البلدة كلما أزفت عودة حبيب !

( ربما يكون في الليلة شيء مختلف )
تعويذة الصبر تستفتح بها سهادها الطويل ، ولكن الهَرَم لايترك لوقتها كثير فُتُوَّة، كما لم يترك لها الزمن مزيد ريعان!!
انتفضت كعصفورة بلَّلها المطر، أخذت تحتضن النافذة بدفء الأم وهي تضم طفلها لتهدأ روعه وتداعب نشيجه، جمدت الدماء في عروقها و خشع ناظرها كما خشوع العابد في محراب قنوته ...ردَّدت بين قلبها ولسانها أنشودة أمل تدربت مَهْلا على إتقان ترتيلها لتكون حكاية الميلاد لحياة عاد فارسها !!
هناك ضوء يلمع في عين البحر ، وهدير أصوات تصخب عند الشاطئ أكثر وأكثر ...
( نعم إنها سفينة تعود من غياب !!! قد يكون هو أحد ربَّانيها أو بعض مسافريها !!)
هرولت إلى الشاطئ متجردة للبرد وناشرة حزنها للمطر، فالكون بالنسبة لها صورة نفسها المتغيرة ... وهي الآن واحدة آخرى لا تعرف من زمهرير الألم غير الموت البعيد .. حرارة اللقيا غشت جسدها وسربلت روحها، أخذت تخطو نحو الشاطئ تزاحم أكوام البشر المكبَّلين بأردية الشتاء، وهي وحدها المتأججة بنار الشوق ...
نزلت وفود واصطفت حقائب وأمتعة !!
أخذ كل إنسان يحمل مؤونة ضيف غريب أو يصافح رفيق قديم، أو يختبئ بالهدايا الثمينة المرسلة من الحبيب النائي .. وهي تتربص الوجوه وتطوي في داخلها مناوشات فرح، وتقتل همسات يأس ...
( لم يعد !!)
ترنيمة صارت سر وجودها الدائم !!

- سيدتي هناك حقيبة كبيرة في أسفل السفينة مرسلة إليك!!

نفضتها فإذا بها من زينة الغواني: أثواب بكل ألوان الطيف،و زجاجات عطر بعضها هدَّه السفر، وآخر أوشك أن يرحل عن الزمن .. بحثت عنه فلم يكن بينها !!
تعثرت يديها برسالة انتفض غبارها حين فضَّت خاتمها ...
( العودة بعيدة ولكن الأمل في قلبك سيجعلها أقرب .. إلى اللقاء )

عادت إلى نافذتها تشقُّ عنها رداء الوهم .. أخذت بقايا كفن اشترته في طريقها ولفت به البيت كله !!


ألقت نظرتها الأخيرة ثم قالت (
لم يعد لك مكان في نفسي أيتها النافذة، فالانتظار على أهدابك رحلة أقطعها نحو الموت، ومازالت الحياة أمامي تتراقص في صورة آخرى ليس فيها وجهه الباهت ولا عويل مزلاجك الصدأ !! أخبريه إذا عاد يوما من الدهر ؛أني قد رحلت يوم رحل !!)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )