كتّاب الإنترنت

 



Photo by Florian Klauer on Unsplash 


اعتلال مستوى الكتابة اليوم قد ألقى بنتاجه على ألوان الإبداع التي لا محالة للكلمة فيها مجال. إذ لا عجب من الاعتراف بأن الكتابة بالنسبة للترقي الإنساني هي ابنة الفكر وهو ربيبها، ولعل شيئا لا نستدل به على أصالة المجموعة الإنسانية من عبثيتها؛ قدر ما تقدمه لنا شواهد المكتوب عندها. 

لقد تضافرت نماذج الانفجار التقني لتسلب من الكاتب فكرته الجديرة، وأسلوبه المتفرد حتى صرنا لا نفرق بين كاتب وآخر، فكلهم في النهاية تجمعهم هوية "كتّاب إنترنت". 

ولعل مناسبا أن نبحث عن ملامح كاتب الإنترنت كما انتهت إليه بعد عقدين من تسيّد الإنترنت منصة رئيسية للنشر. سنجد كاتب الإنترنت هو الشخص الذي تحصد مشاركاته ومدخلاته على الشبكة أعلى القراءات ( كيف ؟ لا نعرف!)، ومع هذا الحصاد الكمي فلا بأس أن تأتي نصوصه مثل أخبار الإنترنت العشوائية والوفيرة. ثم إن أسلوب الكتابة عبر الإنترنت وإن كان في بداية أمره مبشرا بالتحرر من التكلف الأدبي لما ورثناه عن عهود كتبت لتلائم نفسها وزمنها، إلا أن ما انتهى إليه فقر الأسلوب وحيرته وهشاشته يجعلنا لا نستطيع أن نضبط الموازنة بين أسلوب الكتاب ورسالته الموجهة والجمهور القارئ. فدوما هناك بخس لطرف من المعادلة لصالح التخمة الباقين. 

وكاتب الإنترنت الأسرع - كخدمة الإنترنت نفسها- عليه أن يلحق كل شاردة وواردة من وسم مشهور، أو ظاهرة تجتاج القنوات الاجتماعية،أو صيحة تغرد هنا أو هناك في العالم الافتراضي، وأمام هذا التسارع نحو الخفة الهوائية، يتم إهمال "الفكرة القيمة"! فأي كتابة هذه التي لا تحمل فكرا ولا رأيا ولا كشفا!؟

وحتى اليوم، لا ثمة قيادة واضحة لكاتب الإنترنت على مجتمع الشبكة، ولا حتى في مجتمعه المحلي. في حين كان الكاتب كاتبا لأنه "رائد قومه" على مدى عصور الكتابة. إن صورة "المؤثِّر" العبثية قد اجتاحت مفهوم القيادة دون أن تجد معارضة عند منظري فن القيادة، لأن القيادة الفكرية ليست من أبجديات أحد سوى الكاتب، فالكاتب هو من يقود تطور الجدارة على مستويات الفكر والرؤية واللغة، وهي أطروحات غير ملائمة لعجلة الاقتصاد المجتمعي عبر الإنترنت. 

المشكل الأشد خطورة مع مصطلح "كاتب إنترنت"؛ هو أن هذا الكاتب يولد فجًّا، ويستمر فجًّا دون تطور ولا حساب. بمعنى أن كل من كتب تدوينة أو مداخلة على قنوات التواصل الاجتماعي أو روّج لمنتج أو نشر إشاعة أو شجب رأيا - ولو بباطل- : كل هؤلاء صاروا يضعون في تعريف أنفسهم أنهم "كتّاب"، أين ؟ على الإنترنت، وهذا يعني أنه مغفور لهم ما أساءوا!!

الكتابة علم: حتى الفكرة في الكتابة يتم تدريسها، ومخرجات الواقع في المكتبات إنما تحاكي التعالم الذي تضخم عبر الإنترنت. فالأفكار المنسوخة عن ثقافات الآخرين مع تحوير فاشل، والتلعثم بين العامية ( بل والسوقية ) والفصحى، والحكي بقصد ملء الأوقات والصفحات مع تهافت المضمون؛ نجد هذه الخارطة تنتقل من الشبكة إلى الكتاب المطبوع. وتماما، كما حقق كاتب الإنترنت المشاهدات الأعلى والتابعين الأوفر، فإنه ولا ريب ، سيحقق شارة " الكتاب الأعلى مبيعا"، وهذه اليوم من بدع  دور النشر !


من السهل أن نقرر بجلاء ، بأن تتبع التراجع الفكري الحر مع غلبة التنفع الاقتصاد-افتراضي، مع استمرار التطرف دينيا/ ولا ديني؛ كلها مفرزات أن الكتابة كما هي اليوم لم تحقق ثراء لا لقارئها الفرد ولا لعائلتها الاجتماعية. 

وإلى أن يخرج الكتّاب عن أن يكونوا طفيليات الشبكة، فإن جدارة الكاتب يجب أن تحكم كتابته، دون أي معيار تسويقي أو تبعي غوغائي.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )