رسائل في الروحانية (3)

 



(3)

الغيب والمغيّب هو أول جدال الإنسان مع القدر. هذا الحثيث في باطن كل نفس كي تعلم ما غاب عنها من أمرها وأمر عالمها،-و لا شك- أنه قاد الإنسانية لمزيد من التحضر، لأن الخوف من المجهول الغائب هو سمة غالبة على المجتمعات البدائية حين لا تعرف كيف تتعامل معه، فيغلبها قصر حالها وتصير تصارع طواحين الخرافة. وليس الكشف عن المغيب قرينا للمدنية، ولكن الإنسان الذي استطاع أن يرتب القضايا في أولويات الاهتمام، وتمكن من إتقان كيف يستنسخ من كل عالم مقوماته، هذا الإنسان رحّل المغيب إلى حماسة في تحويل كنوز المعلوم، ولكن هذا لا يعني – بتاتا- أنه قد أزاح عنه كل الأهوال المعقودة بالغيب والمغيّب.

ولأن الروح غيب قابع داخل شهود، وهو الإنسان، فإنها كانت وستظل محثّا ماثلا للتصور،ومادة عامة للمخيال، وميدان معفو عن التوسع فيه لأطروحات المعرفة التي ترى أن لها حق التجاوز.

والروحانية والروحية قدمتا مفاهيم فيما يتعلق بالغيب المغيّب كلية، ابتداء بالله الخالق، ثم ما تبع من قصة خلق الإنسان، وتكوين الكون؛ ومع أن لكل واحدة منهما منهجها الخاص القابل للفحص، غير أنهما اتفقتا في التعرض لقضايا كبرى في الوجود، وإن كان الصواب والخطأ وارد في كل طرح. وإلى هنا كان الخط ما يزال آمنا، ولكن الذي استجد بعد هذا في استكناه "القدر" والمصير – قد سبب انقساما في التعاطي مع الروح كعنصر قدري، وفي التكهن بالقوى التي قد تفيدها الروح -داخلها- للكشف عن شؤون من مثل: الرزق، الشريك، المصائب، ثم توقيت الموت وكيفيته.

هناك تفصيلات في قصة الوجود ما تزال في الغيب، وربما من الخير أن تظل في الغيب، لأن طبيعتها متحورة ومتطورة، وما نصل إليه اليوم من شأنها سيكون ماضيا أو قد تم الأمر بتغييره فيما هو قادم أو قريب. إن الحاجة للإيمان بالغيب ليس قلقا في الإنسان ككيان متكامل، بل هو مصدر أمان واتزان ليضبط تطرف أفكاره ومشاعره فيما لا نفع له فيه لأنه يراه يخرج عن حد سيطرته.

والغيب المغيّب ليس من شأن الروح وحدها، إن كل جانب في الإنسان له ثنائية مادية وأثيرية، فهناك المغيّب في شأن الجسد، والمغيب في شأن العقل، والمغيب في شأن العاطفة، والمغيب في شأن الفكر، والمغيب في شأن النفس- ومن هنا تكمن بالضبط ضرورة ترك الغيب المغيّب حتى يفصح عن نفسه في التوقيت الإلهي المبتغَى، والذي سيكون في توافق مع ما وصل إليه التفتح الإنساني للاطلاع على المغيبات.


يتبع...


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )