رسائل في الروحانية (2)

 




(2)

الممارسات الروحانية اليوم - بصورة عامة- هي أشبه بالتدريبات للعودة إلى الروح في مركزها اللائق بها. ولا عجب أن الروحانية كثورة معاصرة أتت ردة فعل لغلبة المادية بوجهيها: الفكري والجسدي، فكان لا بد من التوازن شأن كل توأمة كونية، وسواء أكانت التوائم هنا ثلاثية: الجسد، الروح، العقل، أو رباعية أو خماسية..، بحسب ما اتسعت معرفة الإنسان بأبعاد نفسه.

ولذا، فإنه من الخطأ أن نفهم أن "الروحانية" هي عودة إلى الدين، أي دين كان، وإن كانت الروحانية تقتبس من الأديان ولكنها لا تقوم عليها. إذ ليس التدين هو غايتها، بل على العكس تماما، هي تحرر من التدين بمعنى التشكل باتجاه واحد في فهم الإله. وهذا مما يجب نقاشه ودرسه في فهم الروحانية المعاصرة.

إن الروحية والروحانية من المصطلحات التي تنوقلت على مر العصور، وقد وردت في الآثار الإسلامية على أنها التربية الأخلاقية للقلب لينير ويحقق اتصاله بالله عزوجل. نرى ذلك مثلا في كتاب "الطب الروحاني" للإمام الفخر الرازي.

أي أن الفكرة بأن الروح متصلة بخالقها ويستحيل أن يأتي تطورها بمعزل عن الإيمان بالخالق الموجد؛ هي من الأفكار التي تكاد لا تختلف عليها المدونات الدينية حين نتناول الروح، فالروح متطلعة إلى الهروب من سجن الجسد والاتصال بمصدرها الأول.

وهنا نصير مهمومين بالتفتيش وسط غابة من المقاصد والكلمات بين: فهم الروح، ثم معرفة لماذا الروحانية، ثم تمييز كل ما سبق عن الروحية.

فلو قيل أن الروحانية تساوي بين مفهوم الخالق، والمصدر، والقوة الكبرى: وأنها لا تعول على البحث وراء ما يعتقده الشخص لأنها ترتكز على الوحدة والاتصال والجوهر، وتنبذ التشكل والتدين والانفصال وكل الحدود والقيود التي من شأنها أن تفرق بين البشر: فالكل واحد ما دام يمتلك روحا هي في جوهرها واحدة! فإن هذا الكلام متداخل في بعضه. فإذا كانت الروح كمخلوق واحدة متساوية في كل البشر من حيث مبدأ التكوين، إلا أنها ليست صماء غير مدركة ولا عاقلة، بل هي في بحث مستمر عن الوصول إلى الحق من شأن الأصل الذي أتت منه، أي الله. ولهذا، فإننا لا نستطيع أن نفهم كيف يتساوى من يدين لله بأنه منحه الروح، بمن لا يدري من منحه روحه؟!

إن وقوف الروحانية عند حد الوحدة في مفهوم الروح المخلوق، سيضطرها لأن تظل مكانها ولن تصعد بإنسانها إلى أعلى من الطقوس والممارسات، لأنها ستوجد إنسانا مغلقا على روحه، كما رفضت هي ذاتها في الماضي الإنسان المغلق على جسده، والإنسان المغلق على عقله. وفي نقطة ما ستنتكس هذه الروحانية على مبدأها الأول في النمو والسمو لأنها فقدت الوجهة التي تسمو إليها، وتفتقر للاتصال بمصدر نموها الأصيل. إنها تؤول تدريجيا لمجرد رياضات لتنقية الفكر وإراحة النفس والكشف عن كروت الحظ دون الوصول إلى إجابة عن أي أسئلة سواء أكانت أسئلة بسيطة أم معقدة. وبهذا فهي لا تساير تطور الإنسان على هذه الأرض، و لا يستبعد أن ينقلب عليها أصحابها الذين صاروا أكبر منها، تماما كما انقلبت المجتمعات على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية حين رأوا بأنهم قد تجاوزوها، فقوى الإنسان في تطور، والتطور هو الإجابة عن الأسئلة الملحة والمستجدة.

وإذا انتقلنا إلى الروحية – من وجهة نظر الإسلام- فإنها تشترط اتصال الإنسان بخالقه، وهي تقدم له مراتب الترقي في العلاقة مع الله عبر تزكية النفس وإتقان لذة المناجاة، وتؤمن بأن المريد على الطريق يصل لا محالة إلى أفق يتجاوز عجزه وضعفه فيما لو عقد نيته خالصة في الوصول إلى الله. وإن من أبجديات الروحية أن تناقش "سلامة العقيدة، وأحقية الإله، وصواب المنهج". ولهذا فإن الروحية هي خلاصات مناهج التربية المتعددة: علوم القرآن وتفسيره، الفقه والتشريع، علم السلوك والأخلاق، ومتابعة السنة النبوية. ومن هنا نفهم أن الروحية تستقي طرقها وأدواتها من مصادر الدين التأصيلية، ثم تترك للسالك أن يتقدم ويترقى بحسب صدق همّته، وما يفتح الله له من فهوم وكشوف ومذاقات.

ولهذا فإن الروحية تعتني بشدة بإيجاد الإجابة على الأسئلة ببصيرة منهجية شديدة الوضوح، فلا بد أن يقف الإنسان على أرض صلبة تمكنه من العروج في المدارج الروحية، والإنسان في بداية حاله لا يكون مؤهلا لأن يكون هذه الأرض، ولكنه مع التربية يصبح الإمام والقطب و السيّد الذي يستدل الضالون بهداه.

إن الروحية تقدم معارج لا انقضاء لها على عمر وجود الإنسان المبتغي تزكية ذاته والوصول لخيرها وخير عالمها، وتجعل ذلك حقا مشاعا لكل سالك، وتتكفل من ناحتيها بأن تردف هذا السالك ليكون على بصيرة من أمره فلا ينقلب بعد أن وصل، ولا يجهل بعد أن عرف، ولا يهبط بعد أن نجا وعلا.


يتبع..



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فقه الحبّ 3 ( نصوص نثرية)

لأنك الرؤيا ( نصوص نثرية )

غضبة أنثى ( قصة قصيرة )