التاريخ الشخصي لأرض ما (2) الحب
هل يُعَد الحب مكونا تاريخا في أي أرض؟ للحق، ما لم نبدأ في اعتبار الحب تاريخا مستقلا لكل أرض فإننا ما نزال ندور حول أنفسنا من دون أن نطأ الأرض بأقدامنا، بل بقلوبنا.
الأرض هي موعد الحب المتجدد. إننا نحب لأننا نشعر بأن ثمة ارض قارة على أن تحوينا وتؤلف شعث نفوسنا. كل قصة الحب هي الأحداث المنعقدة بين الإنسان والأرض. ولعلنا اختزلنا تاريخنا طويلا كان يمكن كتابته بإنسانية، لو ما كنا أهملنا معامل الحب في تطور الحياة، والتي حصرنا نظرتنا إليها بالحروب والاقتصاد وحسب.
حين نبدأ منهجا جديدا لكتابة تاريخ الإننسان، فإننا نكتب أخص ما في هذا الإنسان، أي تاريخ دوافعه،ثم تاريخ ما كان الأساس في بناء هذه الدوافع، أي تاريخ الحب.
هل ترى يصدقني أحد لو أني أخبرت بأن كل ذلك الصراع مع ضغوط العيش، والاستعمار للبلدان، وانقسام العالم إلى أكثر من محفل، حتى إن تاريخ الحروب ؛ كل ذلك هو معاناة الإنسان مع رغبته في الحبّ!
قديما قالوا أن من عجائب اللغة: أن اختلاف ما بين كلمتي الحب والحرب هو حرف واحد! ولكنه حرف تكراري، أي الراء، ولذا فإن الحرب تتكرر في تاريخ الإنسان الواحد، ولكن الحب نادرا ما يأتي، ولن يتكرر حب حقيقي أبدا! هذا كلام تعليلي لا صلة لإبداع اللغة به، فإننا أصحاب اللغة و نغلِّب طبائعنا على ما نخترع منها، وعلى فرض الصحة لهذه المقولة، فهي لا تعني سوى الأصل من أن اللغة هي طلاقة الإنسان عن نفسه وما يعيش، ومن هذه الأصالة التي لا يستطيع أن يحجبها: ولعه بالحب!
لكن كيف يكتب الحب تاريخ الأرض؟
سبق وقررنا بأن تاريخ الأرض هو تاريخ الحب الذي نبت فيها وأينع. فروائح الحب بين أزقتها، وشواغل الحب في أبحديتها، والرضا بأن يكون زاد اليوم والليلة في قصص أهلها، بل إن تطبٌّع أهل الأرض بالحب- هذا يعني طول عمر هذه الأرض خلودا، ثم عمق ما تتركه للتاريخ من أثارها، ثم استحالة فنائها الدنيوي!
كم قتل الحب عشاقا، ولكنه أحيا شعوبا وقبائل وأرضين! لم يكن لأي منها أن تبدع وتفرد في سباق النتاج الحضاري لولا أن المفردين فيها شعروا بقيمة فرادة الحب في قلوبهم، فأحبوا أنفسهم وأخرجوا خير ما فيها، وأحبوا أرضهم فأعطوها أجمل ما لديهم، وعليه، فقد أحبتهم أرضهم وتاريخهم وعمارتهم فلم تخذلهم وتتركهم للنسيان.
لا وجود لروح الإبداع والابتكار ما لم يكن ثمة حب في هذه الأرض، قلِّبوا الحديث ما شئتم، ولكنها الحقيقة المطلقة في عالم التغير البشري، ذلك أن قبول الحب والرضى به والعيش في أفيائه- إنما يكون بقدر امتلاء الأرض بالأمن والإيمان، لأن الخوف خصيم الحب، والحب خصيم البلادة والنسيان!
لا نطلق هنا كلاما لا أساس له من التطبيق، إذ يكفي أن نعيد استذكار مبدأ الصحبة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فور الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة، أول ما وطأت أقدام المهاجرين الأرض الجديدة التي ليست بأرضهم، ولكنها صارت بعد ذلك لهم أرضا بالحب!
وعلى النقيض، يكفي أن نتذكر أن زوال الإمبراطوريات لم يحدث نتيجة الهجمات الشرسة من الأعداء، إنما لأن الظلم والحقد والوحشية ألت حياة أهلها وعيشهم!
قبول الحب يفتح الأذهان كما القلوب على كنوز الأفكار وروافد الفنون وبنيات الإبداع، بل لعل الحب هو التشافي لخمول القريحة، فالأرض إنما تبحث عن الإنسان الذي يترك عليها أثرا لتمجّد به بين مثيلاتها من أراض الدنيا. وكم مرّ التاريخ عفوا على قوم أقوياء، ولكنه توقف طويلا في قلوب المحبين.
تعليقات
إرسال تعليق