التاريخ الشخصي لأرض ما (1)/ الأصالة(ب)
ما هي الأصالة؟ كثيرا ما نصف مثلا فنقول: الأزياء التقليدية علامة على الأصالة، الأصالة في العمارة الإسلامية والعربية، الأصالة في العادات والتقاليد..، وهكذا، فهل تتوقف الأصالة عند المنشور الظاهر من النشاط الإنساني؟
لو عدنا إلى القاموس العربي سنرى أن الأصالة هي من خصائص الوصف الأدبي للأديب المستقل في بناء أسلوبه في الكتابة، والتعبير عن رأيه وفكره من دون استنساخ ما عند الآخر، أو قريبا من هذا المعنى.
وما أبتغيه من عرضي هنا للأصالة هو ما تلبستُ به من تجارب فكرية كنت أدوِِّرفيها لأستطيع الإجابة عن تساؤلاتٍ مما تعرض للعقل المنفتح وهو آخذ في النضج، وإني أعزم على أن البحث والتنقيب في الأفكار هو من فضائل التعب الذهني لمن يريد أن يتفرد بهذا العبء مدى حياته.
حين تريد لفكرك أن يتشكل ليتخذ موقفا تجاه قضية ما، فأنت إما عائد إلى مخزون القراءة من الكتب التي تعرضت لتجارب الإنسانية، أو للاستقراء من النماذج البشرية الحية في عالمك، والذين يعبرون في منهاج حياتهم عن خبراتهم المتراكمة، ويعيشون بما يؤمنون به من أفكار وتقاليد.
ولشيء من خدعة الزمن، تظن أنك قد وَقفت على كنوز بشرية مكتوبة وممارسة حية، وهذا كاف لتضع لك رأيا فيها أو عليها. إلا أن ما تكشفه من ذاتك لذاتك، أن لا القراءة وحدها بكافية لتسد نحيب الأسئلة، كما لا المعايشة مع الناس من كل الطبقات هي المعول الأول على معرفة أين يجب أن تقف بين الركام البشري المتدفق! إنك في حاجة إليهما معا، لا بأس، ولكنك في مرحلة تدرك أنهما يشكلان عبئا على عقلك أي عبء، وتود لو أنك تنفر منهما بكل ما فيهما من خيرات وسيئات.
وفي هذه اللحظة التي تصير فيها تحاكم وسائلك في تثقيف نفسك، تكون قد استلمت حرية محاكمة عقلك أولا، لأنك تشرع تنتشله غروره الذي يسول له الكسل في استمراء القريب من الرأي. وإذ تصل إلى نوع من القناعة أشبه باليقين الذي يفرض نفسه عليك حتى لتنخلع عن رأيك لو كان خطأ، وتقبل ضده لو كان صوابا، هذه المراوحة الفكرية العنيفة والصعبة هي التي تخرِج منك أولى علائم "الأصالة": أن تحصد زرعك أنت وحدك!
ليس من مهلة مؤطرة لمتى تصل إلى هذه الأصالة، بل إنها لا تنتهي ما دمت مستمرا في إعمال العقل والقلب في الشؤون والشجون، غير أنها حقيقةُ: أنك تحترم نفسك كافية جدا للاستمرار في تحمل لمِّ هذا الشعث المسمى " الأصالة". لذا فأنا لا أرى الأصالة هي الركون والسلام والهدوء، لا! إنها أقصى الانفعال في مواقف أقصى الهمود.
تعليقات
إرسال تعليق